كتبت : فاطمة توفيق
التقييم : 5/5
بطولة : أديل إكزاركوبولوس ، ليا سيدو
إخراج : عبداللطيف كشيش (2013)
من الصعب جداً
الكتابة عن هذا الفيلم ، من الصعب جداً احتواء وضم كل ما ساهم في كونه عظيماً في
مقال واحد .
في البداية ، أنا أخاف من الاحباط الذي يصيبني في كل مرة أشاهد فيها أحد تلك الأفلام التي يمدحها الكثيرون ويهاجمها الكثيرون في نفس الوقت فيأخذ الفيلم موقف الرمز أو المدافع عن قضية ما ويكتسب شهرته من ذلك ثم عند مشاهدته أكتشف أنه سينمائياً ليس بهذه القيمة ولا يستحق كل هذه الضجة ، إلا أن "الأزرق أدفأ الألوان" لم يكن كذلك أبداً ، بل أعتقد أن الكثيرين ممن أثاروا تلك الضجة سواء بالسلب أو بالايجاب بخصوص تناوله للمثليين جنسياً وجرأة المشاهد فيه لم يلتفت أياً منهم إلى جمال وعظمة ما فيه من سينما ، وكلمة "سينما" هنا أعني بها الفن الذي سكن كل تفاصيل الفيلم من سيناريو و أداء وتصوير وكل ما يشتمل عليه الفيلم من عناصر .
الفيلم يحكي حياة "آديل" الفتاة المراهقة الذكية التلقائية الطموحة ولكنها
في نفس الوقت محبطة وحيدة وحزينة ، وكان لعبد اللطيف كشيش الفضل الأول بقدرته على
إظهار ومعايشة تلك الحالة ، سواء من آديل - والتي لم تقرأ السيناريو سوى مرة واحدة هي و ليا سيدو
ثم طلب منهم كشيش الارتجال في كل مشهد - أو من معايشة الأمر من المُشاهد الذي يتم
امتصاصه بالكامل داخل كل ذلك الفراغ والوحدة الذي تعيشه الشخصية ، ثم يأتي الجانب
الأعظم مما فعله كشيش في الفيلم ، وهي الطريقة التي بنى بها العلاقة بين إيما و آديل ، فـ
"إيما" انسانة اتخذت قرارتها بشأن الحياة واتضحت لها الطرق
التي تريد أن تسلكها فيها ، بينما آديل لازالت تستكشف ولا زالت لا تعرف ما تريد ، كل ما هو واضح
لها هو شغفها بالأدب وحبها للتدريس ، ولكن كل ما هو دون ذلك لم يتضح بعد ، انجذاب آديل لإيما في
البداية قد يكون مجرد انجذاب لرغبة جسدية أو انبهار بما هو مختلف وقوي كـ "إيما" أو
احتياج نفسي لشخص واضح صريح وجريء مثلها وإعجاب متبادل ، إلا أنه ومن الواضح جداً
أن آديل لم يكن يعنيها أمر المثلية الجنسية والدفاع عنها وكان ذلك
واضحاً أثناء حضورها مظاهرة المثليين مع إيما ، بعكس مثلاً المظاهرة التي كانت فيها مع أصدقائها للدفاع
عن ميزانية التعليم والتي إن كانت تحمست فيها لإخراج الطاقة والغضب والحزن الذي
يسكنها إلا إنه على الأقل ظهر اهتمامها بعكس مظاهرة المثليين والتي كانت تحضرها
وهي تائهة تشاهد ما يحدث فقط وتستجيب فقط لابتسامات وقبلات إيما وتحركاتها
، أيضاً يتضح عدم اهتمامها بأمر المُثلية في اخفائها لعلاقتها بإيما وعدم
تعريض نفسها للدفاع عنه في كل مرة تتعرض للنقاش بخصوصه ، قد يرجع ذلك لخجلها أو في
كونها ليست بالقوة الكافية للدفاع عن موقف أو قضية كهذه ولكنها في النهاية أحبت إيما وفقط ،
وزاد ذلك الحب والانسجام والتناغم بينهما بمرور الوقت ، رغم الاختلافات الواضحة
بينهم ، الاختلافات التي اتضحت أكثر مع الوقت وكانت ذروتها في البداية في مشاهد
تناول العشاء مع أهليهما والتي أظهرها كشيش أن اختلاف الفتاتين نابع من اختلاف
الأسرتين وكان الأمر ذو مدلول على فرق الطبقات الاجتماعية ورؤيتها والذي انعكس على
مواضيع الحديث بل حتى على اختيار الطعام بين المحار والنبيذ الفاخر عند أهل إيما و الاسباجيتي
عند أهل آديل .
ومع مرور الوقت أيضاً
اتضح الاتجاه الذي تتخذه هذه العلاقة ، فـ "إيما" كانت
محورها و "آديل" هي الطرف الأضعف ، كان ذلك واضحاً في الطريقة التي
تعبر كل منهما عن نفسها ، عن آرائها في الحياة ، بل كان ذلك واضحاً في مشاهد
العلاقة الحميمية بينهما والتي كانت في البداية آديل تقلد فيها إيما وتتعلم
منها ثم تطورت قليلا لتكون إيما هي مصدر التركيز ثم تطور الأمر ليصل في النهاية لأن ترفض إيما إقامة
العلاقة الجسدية بينهما وكان هذا مزامناً مع تطور علاقتهما لتكون "آديل"
فيها مجرد سند لـ "إيما"، تصنع لها الطعام ، تستضيف أصدقائها ، تشيد بعملها ،
بينما ليس هناك أي أثر لشخصية آديل أو أفكارها أو عملها ، هي فقط قد تضرب المثل بمشكلات
عملها أحياناً لتهون به مشاكل العمل عند "إيما"، حتى وإن
شجعتها إيما أحياناً على الكتابة أكثر كان ذلك نابعاً من تفكير وطموح إيما القائم
على الابداع والابتكار والجموح بينما آديل راضية بوظيفتها وبما تقدمه فيها ، وبذلك أعتقد أن عبد
اللطيف كشيش هو أنجح من عبّر عن تلك العلاقات التي يختل فيها ميزان الأمور لترجح
كفته عند الطرف الأقوى ولا غير بينما يدور فلك الطرف الأضعف حوله فقط، في تلك
المشاهد التي كانت تتحدث فيها آديل مع صديق إيما في الحفلة في منزلهم ، حرص كشيش على أن تكون إيما ظاهرة في
خلفية الصورة دوماً ولو حتى بشكل باهت ولكنها دوماً كانت داخل إطار الكاميرا الذي
تتوسطه آديل ، آديل حتى بعد انفصالها عن إيما ، محاطة وتحيط
نفسها دوماً باللون الأزرق، والأزرق في الفيلم استخدمه كشيش كثيراً كلون للحب و
للحرية وللحزن والهرب والوحدة .
تنتهي العلاقة عند ذلك ، قد يظهر الأمر أنه نتيجة للملل والوحدة والاهمال التي عانتهما آديل من إيما ، ولكن مع إمعان النظر في الأمر تجد أن آديل انتقلت بشكل مباشر من مرحلة كانت تائهة فيها ووحيدة والأمور مشوشة بالنسبة لها بشكل لا يجعلها ترى بوضوح ، انتقلت منها مباشرة إلى إيما التي كانت مسيطرة على عالمها بشكل كامل ولم تكن هناك الفرصة طوال تلك العلاقة تسمح لآديل بأن ترى الأمور بشكل واضح أيضاً، كانت مأخوذة فقط بإيما وبعالمها بشكل لم يسمح لها بالتعرف على نفسها بشكل كافٍ بعد ، واعتقد أن آديل ليست بهذا الضعف التي ترى نفسها عليه ، هي أحبت إيما وجعلت عالمها كله معتمداً على إيما ولكنها على جانب آخر استطاعت أن تنجح في دراستها وتحقق حلمها ، مشهد الأطفال وهم يودعونها بعد انتهاء العام الدراسي والذي جعله كشيش تالياً لمشهد انفصالها عن إيما بشكل مزعج وزائد عن قدرة آديل عن احتمال أي جرعة مشاعر تضاف لما هي فيه ، هذا المشهد يوضح تماماً كيف لآديل حياة قائمة بذاتها هي صنعتها ونجحت فيها بشكل كامل ولكن كيف لقلبها المجروح أن يدرك ذلك ، هذا المشهد عظيم .
تكمن عظمة الفيلم في الآداءات من الممثلتين آديل و ليا وقدرة كشيش على إطلاقها منهم بشكل قوي حقيقي صادق جداً ثم استخدامها في الفيلم والتركيز بشكل تام على وجهيهما في فيلم اعتمد كثيراً على اللقطات القريبة والزوايا الضيقة على الوجه ، أنت تشاهد الفيلم ولا تعرف ماذا يدور حول هذه الوجوه المنفعلة والمشاعر المختزنة بشكل يأخذك تماماً لحياة آديل الغير مرتبطة بأي زمن أو مكان معين .
من عبقرية كشيش أيضاً الاقتباسات الأدبية التي اختارها في الفيلم مع ترتيب تداخلها مع الأحداث، يبدأ الفيلم باقتباس من رواية لـ Pierre de Marivaux يقول فيه على لسان شخصية في الرواية "هل دائماً سأخرج عن السياق ؟ من المستحيل ألا أفعل ، أنا امرأة ، وأنا أحكي قصتي ، فكروا في كلماتي" ، ومع بداية العلاقة مع إيما يقرأ أحد طلاب الفصل كلمات تناقش هل الأشياء بطبيعتها معيبة أم أن العيب ليس من شيم الطبيعة وكيف يتناقض ذلك أو يتفق مع التعاليم الكاثوليكية ، ثم وفي نهاية الفيلم تقرأ تلميذة آديل الصغيرة شرح لقصيدة عن الحيوانات للشاعر Alain Bosquet فتقول الصغيرة كختام لأحداث الفيلم "أن كل هؤلاء والآلاف المؤلفة من الأشياء الأخرى لا حاجة لتفهمها"، ربما يقصد كشيش بذلك الدفاع عن المثليين ، أو الدفاع عن أحداث فيلمه أو الدفاع عن كل ما يحدث في الحياة عموماً .
أيضاً يظهر اهتمام كشيش بالأقليات في فرنسا طوال الفيلم ، بدءاً من موضوع فيلمه الذي يناقش قضية المثليين ، ثم باستخدام ممثلين طوال الفيلم من العرب والأفارقة وأيضاً في اختيار الموسيقى والأغاني الأفريقية أو العربية أو حتى الأسبانية .
في النهاية الفيلم ذكرني أيضاً بفيلم Eternal Sunshine of the Spotless Mind لبراعة كل من مايكل جوندري و تشارلي كوفمان في فيلمهما و عبد اللطيف كشيش في الفيلم هنا ، براعة كل منهم في القدرة على بناء علاقة بين شخصين وتوضيح كل ما بينها من تناقض وتشابه وانسجام ومشاكل وانفصال وإغراق من يشاهدون الفيلم في تلك العلاقة ، وفي رأيي فيلم كشيش هو أجمل ما شاهدته من أفلام 2013 ، بعيداً عن المتحمسين لقضيته أو مهاجميها ومهاجمي طريقة عرضها ، الفيلم كسينما يستحق لقب أفضل فيلم في 2013 .
0 التعليقات :
إرسال تعليق