كتب
: أحمد أبو السعود
التقييم : 5/5
بطولة :
توم كروز ، نيكول كيدمان
إخراج :
ستانلي كوبريك (1999)
في حوار أُجرى مع نيكول
كيدمان عن ستانلى كيوبريك تتحدث فيه عن أليس هارفارد - الشخصية التي قدمتها في الفيلم - تسترسل هي قليلاً عن الحقيقة و الادعاء
و الخطوط الفاصلة بينهما و كيف أنها تتقاطع في أحيان كثيرة ، و تُكمل كيف أن كيوبريك كان يسمح لتلك الخطوط
أن تتقاطع ، و على الرغم من خطورة شيء كهذا إلا أن الأمر يتحول فى النهاية لما هو أكثر
من مجرد صناعة فيلم .. كيف و لماذا سمح كيوبريك بذلك ؟
يبدأ الفيلم بلقطة لنيكول
كيدمان و هي مُعطية ظهرها للكاميرا ثم تتعرى بالكامل أمامنا ، ثُم يقطع كيوبريك على لقطة لشوارع مدينة
نيويورك - مسرح الأحداث - و فى الخلفية هناك مقطوعة موسيقية كلاسيكية شهيرة لـدميتري
شوستاكوفيتش ، ينتهى الفيلم على نيكول كيدمان أيضاّ و هي تنظر لزوجها
بإصرار و تخبره بالشيء الذى يجب عليهما أن يفعلاه فى أقرب وقت و هو F*ck
و ينزل تتر النهاية على نفس المقطوعة التي سمعناها في البداية .. كيوبريك هنا يتحدث عن الجنس في
العصر الحديث ، و مفاهيم الخيانة و الزواج و الالتزام ، و دور الجنس المهم - سواء كان
تخيلات أو حقيقة - الذى يلعبه .
كيوبريك لا يتعاطى مع الجنس بشكل
مُباشر و واضح رغم امتلاء الفيلم بمشاهد جنسية كثيرة و صريحة ، لكن الرجل يصنع منه
حالة نفسية شديدة التعقيد ، وجزء كبير من ذلك التعقيد هو الغموض الذى لا تستطيع معه
تحديد الواقع من الخيال ، مشهد الجدال الشهير الذى فجّر كل الحيرة و التعقيد الذى حدث
جاء بعد سيجارة حشيش غًيّبت وعي أليس ، تدخل هي في جدال لا منطقي مع زوجها ، لتعترف له بخيالات
جنسية تترك في وعي ويليام صدى مُرعب لا يتبين هو معه ما إذا كانت تلك الخيالات حقيقة أم أنها مُجرد
خيالات ، تغيب أليس بعد ذلك المشهد ما يقترب من ساعة كاملة من زمن الفيلم لندخل
فى رحلة ليلية مع ويليام سنظل نحن كمُشاهدين نسأل هل تلك الرحلة حدثت أم أننا كُنّا
نتجول في لا وعي ويليام ؟
يُعزز كيوبريك بقوة من حالة الحلم التي
تسيطر على الفيلم بأكمله ، رغم أن كل شيء يبدو أمامنا منطقياً و واقعياً ، لكن هناك
إحساس بالغرابة يطاردنا دائماً ؛ إحساس يتزايد أكثر مع كل مشاهدة أخرى للفيلم ، يُقابل
ويليام صديق قديم له بالصدفة في حفلة يحضرها هو و زوجته ، نرى تقريباً
جميع النساء مفتونون جنسياً بويليام ؛ الفتاتان اللاتي قابلهما في الحفلة ، من المُمكن تفسير
ذلك بأنه طبيب مرموق و ذو مكانة اجتماعية عالية ، لكن كيوبريك يتلاعب بذلك التفسير ،
الفتاتان تنظران لويليام باشتهاء جنسي واضح و غريب ، ثم هناك الصديقة التي توفى
والدها لتوه و التي تصرح له بحبها له في توقيت غريب و غير مفهوم ، يتطور الأمر بعد
ذلك في مشهد لاحق إلى انجذاب الرجال إلى ويليام ؛ عامل استقبال الفندق الذى ظلّ ينظر إليه بنفس الطريقة
التي كانت تنظر بها الفتاتان إليه ، و يظهر ويليام أغلب الوقت ودود
، مُبتسم ، واثق من نفسه جداً ، يُقدم على أفعال قد تودى بحياته و لكنه ينجو منها دائماً
، و حتى بالنسبة لأليس تستجيب هي للشخص الغريب في الحفلة و ترقص معه و بانسجام جنسي
واضح ، و لكن يربط كيوبريك ذلك الانسجام بأنها شربت كثيراً من الشمبانيا ، تسير حبكة الفيلم طوال
الوقت بهذا الشكل ، بمزج ما هو حقيقي و واضح بما هو مُزيف و خيالي ، تتداخل الخطوط
الفاصلة بينهما لتزداد وتيرة الشك و الحيرة فى نفوس الأبطال و فى عقول المُشاهدين ،
و كأننا طوال الوقت داخل عقل البطل ، داخل أحد أحلامه الجنسية ، و لكن الأمور ما تلبث
أن تزداد تعقيداً و تُسيطر على وعيه حالة من الشك و الاضطرابات النفسية التي قد تُدمر
زواجه .
بعيداً عن تتابع حفلة
الجنس الجماعي الشهيرة ، يستخدم كيوبريك أسلوباً حاداً فى المونتاج
للقطع على المشاهد الجنسية ، تتعرى أليس في البداية أمام الكاميرا ليقطع كيوبريك فجأة على أحد
شوارع نيويورك ، و يقطع فجأة على أليس و هي تعتذر بشرٍ ناعم للغريب الذى رقصت معه في الحفلة عليها
و هي واقفة أمام المرآة في منزلها عارية ليبدأ فاصل جنسي بينها و بين زوجها يُنهيه
كيوبريك بكلوز عظيم على وجهها الذى يبدو من نظراته أنها منفصلة
نفسياً تماماً عن حالة النشوة المُصاحبة للمشهد ، الخيالات الجنسية التي تأتى لويليام لزوجته
و هي تخونه تأتى مُصاحبة بموسيقى موترة و بقطع حاد بينها و بين وجه ويليام .. أسلوب
القطع في هذه المشاهد صادم و مُثير للتوتر و الأعصاب ، يُحقق به كيوبريك بيئة نفسية
شديدة التعقيد عن الجنس و المفهوم الواسع لمعنى الارتباط و الزواج ، و في المقابل يأتي
مشهد الجنس الجماعي بلقطات طويلة ، إيقاعها هادئ ، و بموسيقى تحمل فى طياتها ملامح
دينية أرثوذكسية ، ليصعد على السطح ثانيةً و بقوة : هل ما نراه حقيقي أم أن كل هذا
يحدث داخل حلم من أحلام البطل ؟
بالرجوع إلى شكل حبكة
الفيلم التي لا تستطيع أن تُحدد ما إذا كان ما يحدث حقيقي أم حلم ، نجد أن كيوبريك يوظف كل
أدواته لتعزيز تلك الازدواجية ، على صعيد المونتاج مثلاً يقطع كيوبريك أحياناً
بين مشهد و آخر بدون مساحة فاصلة لتفسير الربط بين المشهدين ، في جولة ويليام في شوارع
نيويورك ليلاً يدخل أحد البارات التي يعزف فيها صديقه القديم نيك ، فى نهاية المشهد
يسأل نيك ويليام باستغراب من أين سيحصل على ملابس تنكرية في هذا الوقت
من الليل ، يقطع كيوبريك على ويليام في تاكسي يقف به أمام أحد محلات الملابس التنكرية ، صحيح
أن كيوبريك يُقدم تفسيراً "منطقياً" و هو أن
صاحب هذا المحل هو مريض قديم لويليام لكن تظل تلك السلاسة في انتقال الرحلة من مرحلة إلى مرحلة
غريبة و غير منطقية ، ترتيب مشاهد الفيلم بأكملها قد تخضع لتفسير منطقي و قد تخضع لتفسير
غير منطقي ، و ذلك بالإضافة إلى المراوغة الذكية الخبيثة الموجودة فى حوار الفيلم بأكمله
، كالحوار الذى دار بين ويليام و صديقه الثرى في نهاية الفيلم أو مونولوجات ويليام مع زوجته .
الحالة البصرية التي يخلقها
كيوبريك هنا عظيمة جداً ، أضواء الكريسماس ، فترة رأس السنة و الأعياد
، البيوت المُزينة بأشجار الكريسماس المُضيئة ، الشوارع المليئة بأنوار الكريسماس ،
بهجة بصرية تملأ المدينة و البيوت ، كل مكان يدخله ويليام في رحلته الليلية
- باستثناء القصر - نجد أضواء الكريسماس ، يختار كيوبريك مصدر إضاءة منطقي
و معروف للجميع و يتلاعب به كيفما يشاء ، ظهور الإضاءة فى كل مكان يدخله ويليام في رحلته
الليلية مُرتبط بفعل جنسي يحدث بعدها ، شقة الصديقة التي مات والدها للتو ، سكن العاهرة
التي قابلها في الشارع ، الحانة التي دخلها و أوصلته بعد ذلك للقصر ، محل الملابس التنكرية
، دائماً هناك أفعال / تخيلات جنسية تنتظر ويليام خلف كل باب يفتحه ، و هي أفعال لا تكتمل في النهاية ربما
لحالة الشك و الحيرة المُسيطرة على عقل ويليام ، و فى صباح اليوم التالي يعود ويليام لكل تلك
الأماكن ثانيةً لتتكرر بعض التلميحات الجنسية ثانيةً .. تختفى إضاءة الكريسماس تماماً
من القصر ، يدخل ويليام القصر مُتنكراً مُرتدياً قناع ، يتجول وسط أشخاص متعريين
يُمارسون الجنس و هم يرتدون أقنعة ، لا مكان هنا لتقديم تفسيرات -بصرية و درامية- منطقية
، هنا يترك كيوبريك الخيال للمتفرج مفتوحاً ، من الشخصان اللذان تعرفا على
ويليام و هو مرتدى القناع و الزى التنكري و وجها له التحية ؟ من
المرأة التي حذرته و نصحته بالخروج سريعاً ؟ و لماذا ضحت بنفسها من أجله ؟ و من هؤلاء
الأشخاص ؟ و ما هي تلك الطقوس الغريبة التي يمارسونها ؟ .. المشهد يسيطر عليه اللونين
الأحمر و الأسود ، اللذان ينعكسان بدورهما على الأجساد العارية التي تملأ المشهد ،
ربما كان هذا التتابع هو أكثر مشاهد الفيلم عُنفاً في تحطيم كل ما هو ممكن أن يفصل
بين ما هو حقيقي و ما هو مزيف ، و كانت حركة ذكية و خبيثة جداً من كيوبريك أن يستغنى
عن شكل الإضاءة الذى سار عليه طوال الفيلم و يخلق تتابع له حالة جنسية صريحة في منتهى
التوتر و التعقيد ... بعد عودة ويليام من زيارة صديقه الثرى في نهاية الفيلم يدخل شقته و يُطفى
أضواء شجرة الكريسماس الموجودة في منزله ، فهل يخبرنا هنا أن الحلم انتهى ؟
ظلّ هذا الفيلم كثيراً
و حتى يومنا هذا مثار جدل كبير - حاله كحال أفلام كيوبريك كلها - ، لكنه
كان جدلاً متعلقاً أكثر بظروف التصوير الغامضة التي أحاطت الفيلم ، و بموت كيوبريك المفاجئ
بعد الانتهاء من مراحل ما بعد الانتاج و عرض النسخة النهائية على ستديوهات وارنر برازرز ،
حتى أن جدلاً من نوع آخر ظهر و هو رضا كيوبريك نفسه عن الفيلم ، منهم من يدعى أنه لم يكن راضياً و منهم
من يقول أن كيوبريك نفسه قال أنه أفضل فيلم قدمه طوال مسيرته العظيمة ، كل
ذلك كان ضباباً انتشر كثيراً و لم يأخذ الفيلم - في رأيي - ما يستحقه من التحليل النقدي
، سكورسيزى اعتبره أفضل رابع فيلم في التسعينات ، و هي مكانة يستحقها
فيلم يرتفع بأجوائه و خصوصيته البصرية و السردية العالية و بأداء ممثليه إلى مصاف الكلاسيكيات
العظيمة .
0 التعليقات :
إرسال تعليق