كتب : خالد إبراهيم
التقييم : 4.5/5
بطولة : فرانسيسكو رابال ، مارغا لوبيز
إخراج : لويس بونويل (1959)
"أحياناً مشاهدة فيلم يشبه
قليلاً بأن تتعرض للاغتصاب" - بونويل
بونويل هو المخرج الأكثر
تديناً في تاريخ السينما طبقاً لـ(أورسن ويلس) ، بونويل يتم دائماً الإساءة إليه باختزال تأويل أفلامه
كلياً وجزئياً بالعودة إلى عبارته الأشهر : "شكراً للرب أنني ملحد"،
بينما بونويل متجاوز تماماً لكل الحدود والفهم المسبق الذي تصوره
الجمهور والنقاد حوله ، وربما متجاوز للحدود التي قد يكون نسجها حول نفسه لفترة من
الفترات ، فأفلامه السريالية (تماماً) في الحقبة الفرنسية الأولى مختلفة عن أفلامه
التي أنجزها منفياً في المكسيك ، والتي بدورها تختلف عن أفلامه الأخيرة في فرنسا
من جديد ، بيرجمان صاغ الفكرة جيداً عندما قال أن (بونويل) بالكاد
صنع أفلام مشابهة لأفلام (بونويل).
في فيلمه (الناصري) والذي
أنجزه في المكسيك ، يُعيد بونويل قص الحكاية القديمة ، قس شاب (أسباني الأصل) يسكن وسط
فقراء المكسيك ، يعيش القس مقتدياً بالمسيح في مختلف نواحي حياته ، ينظر إلى صورة
المسيح في الغرفة التي يعيش بها علَّه يرى نفسه فيها ، اختار بونويل عدم
عرض أي وعظ للناصري داخل الكنيسة ، يعيش القس على الإحسان ولا يخجل من ذلك ، هو
صاحب لسان لاذع رغم تعاليمه التي تدعو إلى التسامح ، الناس تدخل غرفة القس وتخرج
من خلال النافذة وليس الباب في كوميديا عذبة غير مفتعلة .
بالكاد توجد بعض
السريالية في الفيلم ، الفتاة باتريز تحلم بحبيبها السابق في مشهد جعل بونويل الصورة
كالماء ، الأسلوب البصري يوضح أن بونويل حرص على عدم إرباك المشاهد بين الحلم والحقيقة ، وهو ما
لم يفعله لاحقاً في أفلامه الفرنسية الأخيرة .
جاندارا – إحدى قريبات باتريز – عاهرة
تقوم بطعن أخرى ، تختبئ عند القس ، أثناء هلوستها إثر جرح غائر أصابها ترى صورة
المسيح في غرفة القس ضاحكاً ساخراً منها ، تهرب جاندارا من الغرفة ، تقوم
بمحو الدليل على إيواء القس لها فتحرق الغرفة ! ، أثناء تجهيز الغرفة حتى يتم
إحراقها تضع تمثال خشبي لأحد القديسين ممسكاً بصبي صغير ، تضع القديس في كومة
الخشب وتُنقذ الصبي .
بعد افتضاح أمر القس
بإيوائه الفتاة ، يمضي هارباً إلى الريف بعد أن نصحه كبير القساوسة بذلك ، على
الطاولة كان اللبن و الشيكولاتة التي حرص بونويل على تصويرهما بعناية للدلالة على سذاجة القس الذي يرى
الحياة أبيض وأسود / خير وشر ، ولا يبصر المساحات الرمادية المحيرة بينهما ، لكن بونويل
سيجعله يرى الرمادي مباشرة بعدها ، القس يطلب الإحسان من مقاول ، يرفض الرجل ، يعرض
القس على الرجل أن يعمل مقابل الطعام ، بالطبع يقبل المقاول ، يغضب العمال مما حدث
، لأنه بذلك هم عُرضة لأن يتم تخفيض راتبهم أو تسريحهم من العمل في مقابل الإتيان
بعمال يعملون من أجل حصة من الطعام ، شيئاً فشيئاً يصبح من الصعب تحديد الخير
والشر ، يترك القس العمل بعد تفهمه موقف الرجال والذي يوضحه بونويل بالصورة
لا بالحوار ، يقذف رئيس العمال على القس حجراً ، لكن الأخير لا يرد الضربة ، يشتبك
العمال مع المقاول ، نسمع صوت طلقة نارية ، كان رد القس سلبي بينما رد العمال كان
القوة مقابل القوة ، أيهما أصلح ؟ ، يبدأ الشك يتكون لدى القس .
يهاجم بونويل النظام
العسكري / الإقطاعي من خلال لعرضه عقيد سمين يعنف أحد الفلاحين ، بينما العقيد
شديد الضعف أمام زوجته ، يواجه الناصري العقيد ويرحل ، يجد في الريف باتريز و جاندارا و فتاة
مريضة يتوسل أهلها للقس حتى يشفيها باعتباره قديساً ، النساء تؤمن بالقس لكنه يرفض
إيمانهن بقدرته على تحقيق المعجزة ، يخبرهم أن يلجئوا إلى الطب والصلاة ، تتحقق
المعجزة وتنجو الفتاة المريضة فيصبح للقس أتباع .
يجتاح الطاعون البلد ،
أحد النساء تحتضر، لكنها ترفض صلوات القس، وتطلب أن تمكث لحظاتها الأخيرة مع زوجها
/ حبيبها. نلاحظ غيرة جاندارا من باتريز التي تبدأ في الوقوع في حب القس ، جاندارا نفسها
ستقع في الحب خلال علاقة كوميدية مريبة بينها وبين أحد الأقزام ، حرص بونويل على أن
تكون العلاقة غريبة من حيث الشكل والمضمون ، فبجانب الفروق الجسمانية بينهما إلى
أنهما يشيران طوال الوقت إلى نواقص الآخر بالشنيع من الألفاظ ، لكن علاقة الحب تلك
هي الأصدق خلال الفيلم وإن لم تكن الأكثر صحية .
يتم القبض على الناصري ،
يرفض الهروب مثل سقراط ، يضايقه ويضربه زملائه من المقبوض عليهم في مسيرة
أرادها بونويل أن تشبه مسيرة المسيح للصلب ، أثناء وجوده في قسم
الشرطة ، يخبره أحد المجرمين المقبوض عليهم : "أنت على جانب الخير بينما
أنا على جانب الشر .. لكن كلانا بلا فائدة" ، يُصدم بشدة القس من قول
الرجل ويفكر بثقل في طبيعة حياته ومثاليته ، يغرق كلياً في الشك ، يتم عرض الناصري على
أحد ممثلي الكنيسة الذي يخبره بأن سيتم إعفاءه حتى لا يسبب ضرر لاسم الكنيسة ، أعتقد
أن بونويل كان في تصوره ما كتبه دوستويفسكي في روايته
(الأخوة كارامازوف) ، القطعة العظيمة المعروفة بـ(المفتش الكبير) ، حيث
يكون المسيح صامتاً وهو يستمع إلى حديث المفتش الكبير هو الحرية
والدين ، الناصري هنا أيضاً ظل صامتاً خلال المشهد .
"الغموض هو العنصر
الضروري في أي عمل فني" - بونويل
من الملاحظ أن باتريز – الفتاة
الطيبة – قد خانت القس وعادت مجدداً إلى الخطيئة مع حبيبها السابقة ، بينما جاندارا – العاهرة
– ظلت وفية على العهد ، الأولى احبت الناصري كرجل ، بينما الثانية احبته كمخلص ، الناصري –
الذي يعيش براديكالية على تعاليم المسيح – يبدو غير مرحب به لا في مجتمعه ولا داخل
كنيسته ، يرفض الناصري إحسان إحدى بائعات الفاكهة التي تعاطفت مع هيئته ، لكنه
يقبل إحسانها في النهاية ، على ما يبدو بأن إيمانه قد عاد ، لكنه إيمان بالبشر ،
وليس بمثالية غير قابلة للتنفيذ ، في خاتمة أعتقد أنها مشابهة روحياً لخاتمة معجزة
تاركوفيسكي (أندريه روبليوف).
لجأ بونويل للقطع
أحياناً عن طريق ذوبان الصورة ببطء كما لو أنه متمسك بشدة بالصورة التي يعرضها
وغير متعجل على الصورة اللاحقة ، لا وجود يُذكر للموسيقى ، حيث لا يلجأ بونويل للتحايل
على المشاهد باللعب على عواطفه ، كان الاستقبال النقدي مشوش للغاية ومثير للجدل كما
هي العادة مع أفلام بونويل ، المخرج المكسيكي جيلرمو ديل تورو محب مخلص
للفيلم وللسيناريو الذي – في رأيه – لم يفسر شخصياته ولكن يكتفي بعرض أفعالها .
بونويل يحترم رغبة الناصري
وحاجته إلى المثالية ، لكنه في نفس الوقت يعمد إلى السخرية من تلك المثالية ، فصوَّر
القس على أنه أحمق ذو نوايا طيبة ، النوايا الطيبة التي ربما يحملها بونويل نفسه !
، إعتقادي الشخصي أن بونويل إنساني نبيل ، وإن اختار لنفسه القسوة المُحدِثة للصدمة
، التي قد تدفع الناس إلى التفكير .. وربما التعاطف كذلك.
"حتى اليوم ليس عندي
فكرة عن الحقيقة ، أو ما الذي فعلته بها" - بونويل
0 التعليقات :
إرسال تعليق