كتب : أحمد أبو السعود
التقييم : 4.5/5
بطولة : جاك نانس ، شارلوت ستيوارت
إخراج : ديفيد لينش (1977)
"كل أفلامي هي عن عوالم غريبة لن تستطيع الوصول إليها إلا إذا أعدت بناءها و من ثمَّ أفلمتها ، هذا ما يثير اهتمامي بخصوص الأفلام ؛ أنا فقط أحب الدخول إلى العوالم الغريبة" - لينش
في تعريف بسيط جداً للسيريالية يمكن أن نقول عنها أنها تدفق صور و مشاعر ، ليست حبكة و أحداث مرتبطة و متصلة لتشكيل قصة لها بداية و وسط و نهاية ، في السيريالية الأمر متروك كُلياً في يد المُتلقي كي يتفاعل و يُفسّر ، كي يجد بنفسه مدخلاً مناسباً يُمكنّه من الدخول إلى تلك العوالم الغريبة التي يتحدث عنها لينش .
في الـ10 دقائق الأولى من العمل يختفى الحوار تماماً ، تتتابع على الشاشة في
البداية مجموعة من اللقطات الغريبة تتداخل فيما بينها لخلق جو أكثر غرابة ، ثم
يظهر البطل سائراً في شوارع الحى الذي يسكن فيه حتى يصل في النهاية إلى شقته
المتواضعة ، يخلق لينش هنا عالمين متوازيين ، لا يقل أحدهما كابوسية عن الآخر ،
الاختناق واضح في الاثنين ، الضياع و عدم الاستيعاب طاغي على الاثنين ، في الـ10
دقائق تلك من السهل الفصل بين العالمين و الإحساس بخصوصية كل منهما ، لكن لينش تدريجياً
يمزج مفردات و تفاصيل الأول بشخصيات الثاني و أفعالها ، اللعبة التي يلعبها لينش هي في
عملية البناء التي يُشيد بها العوالم الغريبة التي طالما أحب الدخول فيها ، هو
يحقق توازن عظيم ما بين الكابوس و الواقع ، ما بين الوعي و اللاوعي ، يخلق من
تفاصيل الواقع جواً غرائبياً يزيد من كابوسيته كالتصرفات الغريبة التي نشاهدها في
منزل "ماري" ، أو تقبل الجميع للطفل المُشوه و كأنه أمر طبيعي ؛
نادر الحدوث لكنه طبيعي - و على الجانب الآخر يُغذى الكابوس بتفاصيل تجعل التفاعل
معه سلساً و مُرهقاً للذهن في آن واحد كالأحداث الغريبة التي تحدث في غرفة "هنري"
بعد رحيل زوجته لعدم احتمالها صراخ طفلهما المُشوه .. أي بمعنى آخر تدفق الصور و
المشاعر في تلك المشاهد الكابوسية يتحقق بالخصوصية التي تُمكن لينش من استفزاز
الجمهور و دفعه دفعاً ليسأل و يتفاعل و يحاول أن يُفسّر و يربط الأمور ببعضها .
و من المعروف للجميع أن لينش يرفض دائماً الحديث عن أفلامه و خصوصاً هذا الفيلم تاركاً الأمور - كما ذكرت - في يد المُتلقي ، و حتى عندما أصدر مفاتيح لحل لغز فيلمه الأعظم Mulholland Drive كانت - في رأيي - حيلة ذكية منه لكى يُجبر الجمهور على التركيز أكثر و أكثر واثقاً من استمتاعهم بذلك التركيز و من استمتاعهم بفهم الفيلم أكثر مع كل مشاهدة جديدة له ، في فيلمنا هذا الأمور تبدو أقل تعقيداً عما كانت في Mulholland Drive ، الكابوسية التي تغلف الفيلم واضح المقصود منها ، البيئة البصرية التي يخلقها لينش هنا تُحقق لنفسها خصوصية عظيمة و في نفس الوقت تُعطي للمُتلقي المساحة الكافية جداً للتفسير و الاستمتاع ، الكادرات دائماً خانقة حتى في اللقطات الخارجية ، الإضاءة مُظلمة يظهر فيها البطل كأنه شبح يتجول داخل عوالم غريبة ، يستخلص لينش رُعباً خاصاً جداً من تفاصيل البيئة المُحيطة بالبطل كالمدفأة المتواجدة بغرفته مثلاً ، أو من أصوات الجِراء التي ترضع من أمها ، أو من صرخات طفله المُشوه ، هذا بخلاف كل التتابعات التي تحدث في كوابيس البطل من المرأة المُشوهة التي تقف على المسرح مبتسمة و تغنى ، من رأسه التي تُستَخدم لصنع ممحاة قلم رصاص ، و غيرها ، البيئة البصرية التي يخلقها لينش هنا هي جزء لا يتجزأ من طبيعة العالمين اللذين يُشيدهما لينش على مدار الأحداث ؛ الجو الصناعي الخانق الضاغط على أنفاس البشر ، الرغبات الجنسية المكبوتة ، الالتزامات الأُسرية الخانقة ، التشوهات النفسية الناتجة عن اختفاء المساحة المُتاحة لأى إنسان كي يُخرج فيها ما يشتعل في صدره من غضب و كبت .
على شريط الصوت هناك ضجيج واضح و مستمر ، لينش يفعل بالمُتلقي كما فعلت الظروف و الضغوطات في "هنري .. بطل الفيلم" ، يُطبق لينش على أنفاس مُشاهديه ، لا يترك لهم أيضاً المساحة الكافية كى يعبروا فيها مثلاً عن عدم تحملهم للضوضاء المُزعجة الصادرة من شريط الصوت ، أو عن تقززهم من بعض التتابعات البصرية فى الفيلم .. الضجيج الواضح في شريط الصوت ما هو إلا إنعكاس قوي و مفصلي لكل ما يحدث للبطل و لكل ما يُحيط به ، و تقنياً لدينا هنا أحد أفضل المزواجات التي حدثت بين شريطي الصوت و الصورة في فيلم سينمائي .
أراد كيوبريك لأجواء فيلمه الشهير The Shining أن تكون مشابهة لجو فيلم لينش ، فكان يجعل كل طاقم فيلمه أن يشاهدوا الفيلم كثيراً حتى يستوعبوا ما يُريد أن يحقق ، يستمتع لينش ببناء عوالم غريبة في شكل أفلام سينمائية و هو هنا يخلق أحد أكثر العوالم السينمائية كابوسية على الإطلاق .
0 التعليقات :
إرسال تعليق