كتب :
محمد السجيني
التقييم : 5/5
بطولة : يانوش ديرجي ، إيريكا بوك
إخراج :
بيلا تار (2011)
"في تورينو، الثالث من يناير 1889م، يخرج الفيلسوف
الألماني فريديريك نيتشه من المنزل السادس إلى كارلو ألبيرتو، ربما
ليأخذ نزهة، وربما ليمر على مكتب البريد حتى يستلم رسائله، وفي مكان ليس بعيداً عنه،
أو هو بعيد في الحقيقة، يعاني سائق مركبة إيجار من حصانه العنيد، ورغم كل إلحاحه إلا
أن الحصان يأبى أن يتحرك، وعندئذ فإن السائق – جوزيبي؟، كارلو؟، إيتوري؟ - يفقد
صبره ويخرج السوط ليجلده، يصل نيتشه إلى هذا المكان ويضع حداً لهذا المشهد الوحشي للسائق الذي
كان يغلي من الغيظ في هذه الأثناء، ويقفز فجأة إلى العربة، وبالرغم من مظهره القاسي
فإن نيتشه يحيط رقبة الحصان بكلتا يديه ويأخذ بالبكاء، يأخذه جاره إلى
المنزل، حيث يستلقي لمدة يومين على الأريكة صامتاً وهادئاً، حتى يتمتم أخيراً بآخر
كلماته "أماه، أنا أحمق"، عاش نيتشه بعد ذلك عشر سنوات
أخرى مضطرباً وهادئاً في رعاية أمه واخوته أما الحصان فإننا لا نعلم عنه شيئاً".
هُنا
في هذا الفيلم يقودنا بيلا تار الي افكاره
الفلسفية المُتمثلة في الانحطاط وانعدام الأمل في الانسان الذي يصوّره الرجل علي انه
المسئول عن الكارثة الكبرى ، يبدأ الفيلم في تتبع الحصان الذي يقوده العجوز الذي يحمل
ملامح الفيلسوف نيتشه، ليصل إلى منزله الذي يحوي بيتاً وإسطبلاً
وبئراً ، تستقبله ابنته التي لا تتجاذب معه الحديث في علاقة رتيبة وذات روتين دوري
يتكرر يومياً ، ذلك النمط من الحياة التي يظهر فيها العطب سريعاً مع تغير مسارها ،
تلك الحياة البيضاء التي
يظهر السواد فيها بسهولة ، فذلك العجوز بذراعه اليمنى المشلولة وابنته الوحيدة يمارسان
نفس الطقوس يومياً ، الاستيقاظ ، ارتداء الملابس ، جلب المياه من البئر، وجبة البطاطا
المسلوقة والتي يأكلونها بأيديهم وأبخرتها الحارة تتصاعد ، لكن الأمور تبدأ بالتبدُّل
على نحو ما يمكن أن نصفه بالأيام الأخيرة للإنسان ، فالحصان يبدأ رفض الطعام والشراب،
ثم تزداد العواصف والرياح التي لا تتوقف منذ بداية الفيلم وحتى نهايته في توازٍ مدهش
مع موسيقى ميهالي فيج
.
تبدأ
الأحداث في التبدل مع زيارة أحد الرجال ، الذي يقدم مقطوعة فلسفية طويلة عن فساد الأشياء
لكنه لا يتبع منهج نيتشه في فناء
الميتافيزيقيا بل يحمل الإنسان وزر الفساد كذلك ، لكن العجوز يسكته بأن كلامه هراء
، ثم لا تلبث البئر أن تجف ، ما يدفع العجوز لهجر منزله ، لكنه يعود دون أن نعرف لماذا،
ثم تتوقف مصابيح الزيت عن الإضاءة ، لينتهي الفيلم الذي يعرض الأحداث في ستة أيام لها
دلالاتها اللاهوتية والفكرية وخلال 146 دقيقة وثلاثين لقطة فقط !
في المشهد
الأول تصور الكاميرا حُصاناً يجُر عربة ثقيلة وفوقه رجل بالسوط يحثه علي المسير ، الكاميرا
تتراجع الي الوراء وتمسح جانب الحُصان لتعود الي الجُزء الأمامي ، وكل ذلك بلقطة طويلة
واحدة (أربع دقائق تقريباً) ، وهذه اللقطة الاولي موازية للقطاته الافتتاحية في تانجو
الشيطان .
منعطف
الحكاية حين تكتشف الفتاة امتناع الحُصان عن الأكل ، ويتضاعف حين يمتنع عن جر العربة
، وهُنا تتكرر الأشياء كما ذكرت سابقاً ، يُكسر هذا الثقل في مرتين خلال أحداث الفيلم
، الاولي هي الخطاب الفلسفي الذي ذكره أحد زائري العجوز - ذكرته سابقا أيضاً - والثانية
عند نزول أفراد في عربة ويمارسون الصخب بجوار البئر فيخرج العجوز ويهددهم فيغادرون
في ترنّح .
أمّا
التحول في الفيلم يأتي حين تكتشف الفتاة جفاف البئر فيقرر العجوز وابنته حزم امتعتهم
والرحيل ، لكنهما يعودان بنفس الرتابة والعربة ما تزال مملوءة بمتاعهم في مشهد يصور
حدة الضياع وقسوة القلق . تتضاعف مأساة الاثنين بعدها باكتساح الظلمة ليل البيت حين
يتأكد لهما نفاد زيت القنديل الذي ينطفئ بشكل أبدي ، ويلوحان على المائدة باليوم التالي
. الفتاة تمتنع عن أكل البطاطا والرجل يطلب منها أن تفعل . يقضم من البطاطس ثم يلعب
بها ويتوقف عن أكلها.
حكاية
الفيلم لا تستغرق سوي عشرة دقائق علي الأكثر اذ تبدو القصة مُفتقدة للدينامية في الأحداث
، لكن بيلا تار يرد علي
ذلك في أحد حواراته انه (لا أهتم بالقصص .
لم أهتم بها أبدا . كل قصة هي نفسها . حين لا يكون لدينا قصص جديدة. فإننا نعيد القصص
نفسها. في الواقع لا أعتقد أننا حين نصنع فيلماً فإنّ عليك أن تفكر بالقصة . فالفيلم
غير القصة . إنه في الغالب صورة وصوت والكثير من العواطف).
وعندما
سُئل بيلا تار أيضاً
عن طريقة عرضه للأفلام وتقديمه للسينما في صورة الأبيض والأسود قال ان الوضع داكن والطريقة
الوحيدة لعرضه هو التزامه . لا تستطيع أن تعرض وضعاً داكناً بألوان فرِحَة . ولا تستطيع
أن تضفي عليه حلولاً مطمئنة. ما أقوم به هو ان أعرض الواقع وأعلق عليه من زاويته. الى
ذلك، انا لا أرى ما يثير البهجة اليوم
.
بصرياً
الفيلم فاتن جداً ، الرجُل يمنح أحداثُه فترتها الزمنيّة كاملة علي الشاشة ، يُتابع
مُمثّليه في كُل لحظاتهم ويجعل صمتهم مُوحيًا و بذلك يجعل أي شيء تلتقطه الكاميرا هو
حدَث قائم بذاته وبدون حدث كبير في الفيلم وبالتالي يبطيء بيلا
تار مشاهده
، يستخدم اللقطَات الطويلَة في تصويره لايقاع الحياة.
بيلا تار هُنا
يرسم العُزلة في صورتها القصوى ، ويصوّر ضراوة الألم والقسوة الطاعنة للصمت وثقل الوجود
المُفرط في التكرار .. ويذهب أبعد من ذلك في هروبه من تحديد زمني لقصته ، اختيار الأبيض
والأسود يصنع اللحظة الزمنية ويحيطها بقدر هائل من الهُلامية ، فيشعر المرء انه يعايش
آخر ما تبقي من الحياة علي الأرض بسبب كارثة كونية مثلاً ، او انه في زمن بدائي غائب
أزلي .
في المُجمل
هذا الفيلم يُعبر عن وجهة نظر بيلا تار التشاؤمية
تجاه الحياة ، ونقده للانسان وتصويره للعُزلة واقتراب النهاية ، هذا واحد من اعظم ما
شاهدت خلال الألفية .
0 التعليقات :
إرسال تعليق