التقييم : 4.5/5
بطولة : خافيير درولاس ، بيلار لوبيز دي أيالا
إخراج : غوستافو
تاريتو (2011)
الفيلم الذي يعطي
الشاعرية دور البطولة في مدينة الوحدة الخانقة. بيونس آيرس التي تشبه
الكثير من مدن العالم، يعيش فيها أشخاص يشبهون الكثير ممن يعيشون في هذه المدن.
مدينة معقدة ذات تخطيط هندسي غير متناسق ومبانٍ لا تشبه بعضها تخنقها الأسلاك من
الأعلى وتدير ظهرها لنهرها، وبشر غارقون في المشاكل النفسية والضغط العصبي
والاكتئاب، لديهم مساحات شاسعة في أرواحهم للحزن والإحباطات المستمرة من الواقع
الذي لا يرقى لأبسط أحلامهم، هؤلاء الذين يمتلكون نفس الأحاسيس والأفكار
والتراجيديا التي تعزف كنغمة خلفية لا تكاد تُسمع عند البشر الذين يعيشون في ظروف
متشابهة، يتيحون لنا الفرصة لنرى بأعيننا ما نحن عليه، وكأن هنالك تلك الكاميرا
التي قررت التطفل على حيواتهم فقط، فبدأنا نرى أنفسنا بأعين الكاميرا ونسمع
أفكارنا بصوت أعلى.
الفيلم لا يريد تغيير أي شيء، أو حتى أن يصنع قصة، كل ما فعله هو أنه تتبع مسار الخيوط التي تتقاطع أحيانًا ثم تأخذ اتجاهات مختلفة أو متعاكسة ولا تلبث أن تلتقي مرة أخرى حتى النهاية الشاعرية غير المحسوبة، وهذا ما يجعل هذه الحكاية عن الوحدة مؤنسة. لكن هذه الدراسة للمدن الحديثة والحياة العصرية بصوتين بشريين في مكان مزدحم بالمباني والبشر لا تسعى لأن تكون ملحمة ميلودرامية، إنما معالجة خجولة وهادئة -وربما وقورة- لكل هذه المشكلات. هناك الشارع الخانق الذي يطبق على الروح، وعلى الرغم من ذلك هناك أناس يبحثون عن شيء ما، أو أحد ما، يحاولون محاربة الوحدة التي تغرق الإنسان فلا يستطيع التنفس، كسمكة خرجت لضوء الشمس، أو كإنسان يغرق بلا مقدرة على العوم.. حتى النهاية.
الشخصيتين الرئيسيتين
للفيلم مارتن (خافيير درولاس) و ماريانا (بيلار لوبيز دي آيالا) لديهما حياتين متشابهتين إلى حد بعيد.
كلاهما أصبح وحيدًا مؤخرًا بعد انفصاله عن الشخص الذي كان مرتبطًا به وكلاهما
يعاني من الاكتئاب والوحدة وتلك الفوبيا من الزحام ومن الأماكن الضيقة المغلقة.
يعمل مارتن في تصميم المواقع الإلكترونية، والأحرى أنه تخلى عن
الحياة الواقعية بأكملها ممارسًا معظم نشاطاته اليومية في الفضاء السيبيري، فيما
درست ماريانا الهندسة المعمارية لكنها تعمل في تصميم واجهات محلات
الأزياء.
الوحدة وحش خفي كاسر،
يأكل في الروح حتى تفنى. الوحدة تأتي مع انكسارات عاطفية متتالية فتكون أفضل
الخيارات المتاحة، ثم تجد مساحتها الخالية للعب. معظم الوقت يستسلم البشر الذين
يحيون في إطار معين من الروتين الذي اعتادوا عليه في هذه الحرب مع الوحدة والعزلة،
ولذلك يصبح من الصعب عليهم إدراك ما فقدوه، أو ما يريدون الحصول عليه، وربما إذا
صادفوا أقل القليل مما يمكنهم أن يتحصلوا عليه فإنهم يرضون بالأمر الواقع. الكثير
من الضغوط في الخارج تجعل الإنسان هشًا أكثر من اللازم، فيصبح سهل التحطم بدون أن
يدرك أحد ما حدث في هذا الزحام الذي يزداد بلا توقف، من هنا تتحول محاربة الوحدة
إلى خيبات أمل متتالية بعد الفشل المتكرر في المحاولات غير المجدية.
وعلى الرغم من أن
الشخصيتين الرئيسيتين لديهما فوبيا من الزحام والتي تعني لهما الضياع وسط الحشود،
أو فوبيا الأماكن الضيقة محكمة الإغلاق كالمصاعد والتي تعني حالة معاكسة لسابقتها
من التمحور حول الذات واحتضان رعبها من الوحدة وخلق حالة نفسية خصبة لنموه، إلا أن
هذا الخوف يدفع في الاتجاه المعاكس، أو الوصف المعجمي للحياة التي تجد طرقها
الخاصة حتى وإن كانت غريبة وغير مألوفة، ما يجعل التواصل عبر الفضاء الإلكتروني
الشاسع أكثر ملاءمة، وإن أصر الفيلم على أن يضعه في مكانه الطبيعي، فالحديث مع
المجهول لا يخلق ألفة على الإطلاق مهما كان شخصيًا، في حين أن احتمالات حدوث
الألفة بين شخصين تصطدم أيديهما في الظلام تتخطي احتمالات ذلك في عالم
(الإلكترونيين الآخرين) الواهي بكثير. كما تجعل البطلة من صناديق الفاترينات
عالمًا مستقلًا بذاته وله خصائصه، منها أنه (لا في الداخل ولا في الخارج)، المساحة
التي ترى فيها انعكاسها وتضع فيها لمسة من روحها القلقة بالحياة على تماثيل المانيكانات
الجامدة، والتي تتحول بشكل ما إلى كائنات مشاركة في المساحات الخاوية في منزلها،
تتفاعل معها بما يكفي كي لا يستولي جنون الوحدة عليها، بما لا يجعل من هذا التفاعل
مبالغة غير ضرورية.
بعد وصف مكثف لما
يعنيه أن تعيش في مدينة كهذه ينتقل الفيلم إلى الفكرة المحورية، حيث المساحات
الشاسعة من القبح، مساحات لا استخدام فعلي لها سوى أنها وجدت بفعل التبعية لوجود
آخر. المباني التي تختلف أحجامها وأطوالها وأشكالها جميعها تملك حيطانًا جانبية،
هذه الحيطان متروكة للباحثين عن الكآبة، لا تحاول التجمل لأحد ولا يهتم بها أحد.
لكن استخداماتها التي تقتصر على الإعلانات تتيح للبشر الذين يحاولون الهرب من
العيش داخل صندوق محكم الغلق التمرد على هذا التكوين المصمت، ما يجعل من كسر هذه
الحيطان لصنع نوافذ ترى النور فعلًا ثوريًا حتميًا كنتيجة لسياق الحياة بهذه
الطريقة، ما يجعل مشهد الحوائط الجانبية من الخارج غريبًا وغير متناسق، بل وعلى
الأغلب يكون من الممتع مشاهدة المصادفات التي تخلق وجودًا غير متوقع لهذه النوافذ،
تمامًا كالنباتات التي تنمو من المباني و الحوائط والأرصفة بلا مساعدة أو رعاية،
وبلا مقدرة لأحد على إيقافها، كما يستخدمها الفيلم كرمز تعبيري جميل عابر.
نص عظيم ورائع،
وخلفية موسيقية لا تتوقف كجزء جوهري من السرد، يمكنني أن أعيد سماع الفيلم فقط
بدون مشاهدته، لكن الفيلم يكتمل بكولاج بصري مدهش لمجموعة متتابعة من الصور التي
تصنع الحالة الهادئة للفيلم كلوحة لا يمل المرء من المرور عليها كل فترة وأخرى.
0 التعليقات :
إرسال تعليق