كتب : عماد العذري
التقييم : 4.5/5
بطولة : إليوت غولد ، نينا فان بالانت ، ستيرلنغ هايدن
إخراج : روبرت ألتمان (1973)
أعتقد أنه أقل
كلاسيكيات روبرت ألتمان العظيمة تقديراً ، في بدايته الأولى رفض بيتر
بوغدانوفيتش إخراج هذا الفيلم (كما فعل هوارد هوكس قبله) لكنه رشح روبرت ألتمان
للتصدي للمشروع ، كان ألتمان خارجاً للتو من نجاحيه الكبيرين في MASH و McCabe & Mrs.
Miller
فرفض هو الآخر ، لكنه سرعان ما تراجع عن ذلك شرط التخلي عن روبرت ميتشوم
و لي
مارفن كي يمنح الدور الرئيسي لصديقه إليوت غولد الذي كان مشكوكاً
حينها في سلامته النفسية !!
ألتمان يشارك هنا لي براكيت
إقتباسها لروايةٍ كتبها ريموند تشاندلر قبل عشرين عاماً و هي التي سبق لها
وحققت لريموند
تشاندلر
إقتباسه السينمائي الأشهر قبل 27 عاماً في The Big Sleep ، الاقتباس الجديد
يعيد مجدداً شخصية فيليب مارلو إلى الشاشة الكبيرة متابعاً سلسلةً من الإقتباسات ظهرت فيها
شخصية المحقق المتهكم في جسد مجموعةٍ من نجوم هوليوود منهم جيمس غارنر
و ديك
باول و روبرت مونتغومري ، مع ذلك بقي مارلو الذي قدمه إليوت غولد في هذا الفيلم
أفضلها - ربما - وراء الصورة الأيقونية التي خلفها له همفري بوغارت في كلاسيكية هوارد هوكس
.
التحري الخاص يواجه
في الفيلم بعض المتاعب مع الشرطة بسبب صديقه المختفي تيري لينيكس ، الأمر الذي
ينتهي به في السجن ، بعد خروجه و إغلاق قضية صديقه تكلّفه إمراةٌ غامضة تدعى إيلين ويد
بالبحث عن زوجها الكاتب المعروف روجر ويد والذي اعتاد على الإختفاء لفتراتٍ طويلة تحت
تأثيره إدمانه على الكحول ، تقرّب مارلو من إيلين سيجعل من قضية صديقه تيري
تعود للظهور مجدداً .
عظمة هذا الفيلم قبل
كل شيء تأتي من إطلاقه أول دوي حقيقيٍ مسموع في عالم ما عرفه لاحقاً بـ (النوار الجديد)
أو (ما
بعد
النوار) ، أعتقد أن ذلك الظهور الذي بدأت مخاضاته مطلع السبعينيات في
هوليوود حدث في الواقع كنتيجةٍ طبيعيةٍ لثلاثة عوامل : أولها خفوت النوار في
هوليوود أواخر الخمسينيات بالتوازي مع الأثر الواضح الذي أحدثه في السينما
البريطانية و الفرنسية في الخمسينيات و الستينيات ، و ربما شعرت هوليوود أنها
بحاجة لإستثمار نوعيةٍ من أجود ما قدمته للسينما عموماً بدلاً من أن يستثمرها
غيرها ، و ثانيها رد الفعل المتوقع تجاه المزاج السائد في البلد ، حيث ظهر النوار الأربعيني
في هوليوود بتأثير المود الذي خلقته الحرب العالمية في الناس ، و بالتالي جاء (النوار الجديد)
بعد فيتنام
و ووترغيت
أيضاً كنتيجةٍ بديهيةٍ للمود السائد ، و ثالثها دون شك محاولة كسر القوالب الجاهزة
التي خلفها الفيلم النوار في الأربعينيات و الخمسينيات ، سبقت هذا الفيلم محاولاتٌ
متوسطة المستوى ، لكن ألتمان كان جريئاً بما فيه الكفاية ليسخّر الثيم
القصصي البصري للفيلم النوار ويعيده بصورته العظيمة (الملوّنة / المختلفة) في
السبعينيات ، بعده بعام كان Chinatown و بعده بعامين جاء Night Moves و لم تتوقف السلسلة
بعد ذلك .
من هذا المنطلق يمكن
أن اقول أن أجمل ما في الفيلم هو أنه يمكننا ببساطة أن نصوره بالأبيض و الأسود مع
ممثلين كلاسيكيين و نحصل على فيلم نوارٍ أربعينيٍ عظيم ، الطريقة التي يأسر بها ألتمان روح
الفيلم النوار عظيمة ، مع ذلك هو لا يؤسس فيلمه على البنية التقليدية له (كما فعل
مع الويسترن أيضاً قبل عامين في McCabe & Mrs. Miller) ، أهم ما يتخلى الفيلم
عنه من بديهيات الفيلم النوار هو (الماضي) ، الماضي جوهري جداً في أفلام النوار
الأربعينية ، و لطالما كان الفلاشباك أو صوت الراوي ركناً أساسياً قامت عليه ،
الماضي في فيلم ألتمان خافتٌ جداً ، غير مهم ، حتى عندما يتكشّف لنا لا يبدو ظله
ثقيلاً على ما يجري ، نتائجه أهم بشكلٍ ملحوظ من معرفتنا به .
تفصيلٌ أخر لا يبدو
تقليدياً هنا بالمقارنة مع الفيلم النوار يتعلق بـ (الحبكة التحقيقية) ، المحقق في
الفيلم النوار يبقى مرتبطاً بعملية التحقيق ، نراه يصادف أشخاصاً ، يتجسس ، يقدم
على تصرفاتٍ غير متوقعة ، و حتى يقع في الحب ، لكن يبقى (التحقيق) هو محور كل شيء ، مارلو مع
ألتمان
لا (يحقق)
بالمعنى التقليدي ، الشرطة هي من تطارده في البداية ، خصوم صديقه هم من يطاردونه
لاحقاً ، حتى عندما توكل له إيلين مهمة استعادة زوجها لا تكون المهمة معقدةً كحال
أفلام النوار ، ألتمان يجعل شخصيته تتحرك وفقاً لـ (الفضول) أكثر من كونها تتعلق
بـ (التحقيق)
و هذا يعطي للحبكة مسحةً (شخصيةً) بالنسبة لها ، كاريزما فيليب مارلو الأربعينية
(حيث لا مبالاته و صلابة تمسكه بما يعتقده) تغلّف إلى حدٍ ما مسحةً مختلفةً من
الإهتمام بما حوله : قطته ، صديقه ، جاراته الهيبيات ، إيلين ويد ، و حتى القضية
ذاتها ، فيليب
مارلو لا يكترث للمال ، هو يريد أن يحل اللغز من أجل أن (يعرف) أكثر
من كونه (يقوم
بعمل) ، الحدث هو من يقود الشخصية على خلاف ما كان يفعل في نواريات
الأربعينيات ، و ربما في ذلك إنعكاسٌ طبيعيٌ من السهل قراءته اليوم في مسيرة ألتمان
الذي لطالما كان بعيداً عن جعل الحبكة محوراً لإهتمامه ، كانت النبرة و حالة
الشخصيات هي ما يحاول نقلها للجمهور دائماً ، ومشاهدتنا للفيلم ضمن سياق مسيرة ألتمان ككل
يجعلنا نلمس ذلك التفصيل بوضوح .
أعمق من ذلك لا يختلف
مارلو
ألتمان عن مارلو هوكس في نبرته التهكمية لكنه أكثر وحدةً منه و أكثر اصراراً على
تلك الوحدة ، لا يخفى علينا تجرده الواضح من العاطفة تجاه الجنس الآخر ، علاقته مع
إيلين
تخدعنا و نحن ننتظر تحولها إلى شيءٍ آخر لا يحدث ، يقول لموظف السوبر ماركت (لدي قطّة)
، يرد عليه الرجل (لدي فتاة ، ما حاجتي لقطّة) ، هو ربما يفرغ المساحة العاطفية (التي لا
تخفى علينا من تعامله مع صديقه و تشبثه ببراءته) من خلال قطته التي غادر ليلاً
ليجلب لها طعاماً ثم ظل لفترةٍ طويلةٍ يبحث عنها ، بطل فيلم النوار الأربعيني لا
يبحث طوال الوقت عن قطته ، لا يصبغ وجهه بالحبر في غرفة التحقيق ، و لا يركض في
الشارع مثل مراهقٍ وراء سيارة الأنثى التي تحرك الحكاية ، روبرت ألتمان و إليوت غولد
يتلاعبان بالشخصية على طريقتهما ، يمنحانها نبرةً مختلفة ، و يجعلان الكثير من
تفاصيلها خاضعة لمزاجها الخاص و ربما لجنونها الخاص ، تفصيلٌ يؤكد تماماً كلام بول توماس
أندرسن عن تأثير هذا الفيلم عليه في Inherent
Vice .
ذلك المزاج يحققه ألتمان بصرياً
أيضاً ، الحركة الناعمة جداً لكاميراه التي لا تتوقف في أي مشهد ، هندسة الصوت
التي لا تلتزم العلاقة الطبيعية بين المسافة و مستوى الصوت فنبقى قريبين من مارلو في
أصغر همهماته ، الموسيقى التصويرية العظيمة من جون ويليامز و التنويعات
المتعددة للحن The Long Goodbye طوال الفيلم ، في المشاهد الداخلية يبدو روبرت ألتمان مولعاً – كما
سنعرفه دائماً – بالتصوير عبر مستوياتٍ مكانية ، كاميراه تلتقط الشخصية ثم الشخصية
التي وراءها ثم الشخصيات خارج المكان ، يروقه التقاط الحوار خارج الكادر و مراقبة
العناصر عبر حاجزٍ مادي ، نرى ذلك بشكلٍ رئيسي في شقة فيليب عندما تتلصص الكاميرا
على جاراته ، أو في منزل روجر ويد عندما نراقب مارلو عبر إنعكاس الزجاج ، و
في مشاهد أخرى كمشهد ويد و طبيبه و مشهد المحققين المكسيكيين و مشهد
التحقيق عبر النافذة الملطخة ، حتى الخارج لدى ألتمان ليس براقاً كما في
أفلام النوار ، الشوارع و أضواء المدينة و المراقبة و المعاطف تذوب أمام صورة فيلموش زيغموند
الذي يتجنب التعامل مع الفلاتر و يلجأ ربما لمعالجة الشريط السينمائي بطريقة تسلبه
اشباع ألوانه و تُنتج مجالاً ضيقاً من الألوان تعطيه بفضل الإضاءة المكثفة احساساً
حالماً يشبه الإستيقاظ من النوم أو العودة من غيبوبة ، ديفيد لينش في علاقته الحميمية
مع الليل تأثر بهذا الفيلم كثيراً حتى لو فكّر بإنكار ذلك !!
تيري يصف مارلو في
الختام بأنه (ولد خاسراً) و أعتقد أن هذا ما جاهد ألتمان ليخلقه في مارلو
على الشاشة : مزاجه المسيطر ، و لا مبالاته ، و الميزان المتذبذب بين لطفه و
تحاذقه ، و هي تفاصيل دعمها بقوة أداءٌ بارعٌ من إليوت غولد في الشخصية
الرئيسية إلى جوار أداءاتٍ ممتازةٍ من مارك ريدل و الدنماركية نينا فان بالانت
، مع ذلك هناك بعض التشويش الزائد في شخصية روجر ويد يزيد عن طاقتها حتى
مع أداءٍ جيدٍ جداً من ستيرلنغ هايدن ، و هناك إشباعٌ ناقصٌ ربما يحصل عليه
المشاهد وهو يراقب جرأة مارلو على قتل صديقه في الختام لا يخفف الشعور به
الموت الرسمي لتيري مسبقاً أو حالة التلاعب التي وضع صديقه مارلو فيها ، مع ذلك :
It’s OK with me كما اعتاد مارلو أن يقول !
0 التعليقات :
إرسال تعليق