كتب : عماد العذري
التقييم : 4.5/5
بطولة : جاك نيكلسن ، كارن بلاك ،
سوزان آنسباتش
إخراج : بوب رافلسن (1970)
في أربعة عقودٍ لاحقة
بقي هذا الفيلم واحداً من أهم الأسماء التي تذكر عند الحديث عن السينما الأمريكية
الجديدة في السبعينيات ، ربما لم يكن أفضل تلك الأسماء أو أكثرها أثراً ،
لكن الدراسة التي يقدمها لشخصية بطله أصبحت انعكاساً من السهولة تذكره لأزمة جيلٍ
بأكمله .
لم تسنح الفرصة
لسينما بوب رافلسن لتصبح شيئاً عظيماً ، لكن الشراكة المهمة التي
حققها مع جاك نيكلسن كانت فاتحة نجومية كلٍ منهما ، و فاتحةً - مع غيرها
- لسينما أمريكية جديدة و مختلفة و متواضعة التكلفة ، بقي هذا العمل مأثرة تلك
الشراكة .
في هذا النص الذي
شارك فيه رافلسن كاتبته ادريان جويس هناك روبرت ايروك دوبي ، موسيقيٌ شاب من أسرةٍ عريقةٍ من الموسيقيين
يعيش حياته بعيداً عن عائلته حيث يعمل في محطةٍ لإستخراج النفط في كاليفورنيا
ويقضي لياليه مع صديقته النادلة رييت ، عندما يعلم بوبي بمرض والده يجد في ذلك فرصةً ليسافر الى ولاية واشنطن
لزيارة عائلته .
لـ (الحكاية) دورٌ
ثانويٌ هنا ، جويس و رافلسن يقدمان (دراسةً لشخصية) شابٍ أمريكي في ذروة حقبة التحولات العظيمة
التي تلت فيتنام ، دراسة تتجاوز حفرها في سلوك الشخصية الى ايجاد مساحة
اسقاطٍ مناسبة على جيله بأكمله ، شيء يشبه محاكمة التبعات الاخلاقية و الاجتماعية
و النفسية و الأزمة الوجودية التي عاشها شباب ما بعد الهيبيز و ما بعد فيتنام ، في
هذه الدراسة لا وجود لكل تلك التغيرات الإجتماعية / السياسية ، هي مرميةٌ تماماً
بعيداً عن الصورة و هذا يمنح تلك الدراسة - على اعتاب حقبةٍ سينمائيةٍ جديدة في
هوليوود - مذاقاً أوروبياً واضحاً و غير مسبوق .
الافتتاحية هنا ، و
طريقة لقائنا بالشخصيات ، و شريط الصوت ، تتآزر لتصنع توليفةً ساهم التأكيد عليها
في أفلامٍ أخرى في خلق شعور ملهم بأن (هوليوود تعيد تعريف نفسها) ، هذا الشعور توازى - عندما
مشاهدتنا الفيلم الآن بعد ٤٥ عاماً - مع الأزمة الوجودية التي يدرسها الفيلم في
بطله : (أميركا ذاتها تعيد تعريف نفسها) ، عندما نلتقي بطلنا مطلع
الفيلم يكون ذلك في موقع التنقيب الذي يعمل فيه ، في ذلك اللقاء نستشف مباشرةً
شخصيةً أوضح لسينما السبعينيات ، شيئاً لم يكن اعتيادياً في سينما العقد (مشوش
الهوية) الذي سبقها ، عنوان الفيلم يأتي من خمس قطعٍ موسيقيةٍ - نجدها في تترات الافتتاح
- لشوبان و باخ و موزارت ، كلمة (سهلة) في عنوان الفيلم تشير إلى تواجدها في كتب تعليم الموسيقى
، في عالم تلك القطع كانت نشأة بوبي ، بوبي بقدر ما يكون هنا انعكاساً لجيله ، بقدر ما هو ايضاً
انعكاسٌ للطبقة المتوسطة التي ينتمي اليها و التي لطالما لجأت السينما لدراسة شخصياتٍ
منها عندما تحاكم منظومة عصرٍ بأكمله بحكم كونها الطبقة الأكثر تأثراً في كل
الأزمات الاجتماعية ، تلك التي تبقى تحت تهديد الانسحاق و الآمال المبددة (حيث
تعيش الطبقة الفقيرة) و في الوقت ذاته اسيرة طموحاتها و رغباتها التي لا تهدأ (حيث
تنتمي الطبقة الغنية) ، أزمة بوبي ضمن هذه الطبقة ليست أزمة ذاتيةً تماماً ، ليست شيئاً
شخصياً جداً ، هي بالنتيجة خلاصة موروث / مسافة / فجوة وجدناها تتسع بين (الصورة التي انتظرنا أن تؤول
اليها حياتنا) و (بين ما آلت اليه بالفعل) ، هذا هو الإطار الذي يدرس رافلسن و جويس شخصية
بطله من خلاله ، (ما آلت اليه بالفعل) هي النقطة التي نلتقي فيها بوبي أولاً ،
ليس الشكل الناعم للطبقة المتوسطة الذي سنعرفه فيه لاحقاً ، هو الآن عامل تنقيبٍ
في منشأةٍ نفطية يعيش حياة كادحة : روتين العمل ، العلاقة العاطفية ، الاهتمامات ،
الصداقات ، قتل الوقت ، و بالتأكيد شعور منسل بعدم الرضا ، يزاوج رافلسن في
مراقبته هذه بين العمل و الحياة الخاصة بصرياً بصورةٍ جميلة و غير مفتعلة و يترك
مساحةً كبيرةً للمشاهد لتكوين وجهة نظره ، من خلال تلك المساحة ندرك أن بوبي لا
يستمتع في كليهما ، مع ذلك هو يعيشهما مع قليلٍ من التغاضي و قليلٍ من التذمر ، لا
يوجد - عملياً - ما هو جذابٌ فيما نراه ، لا عمل ممتع (أو مربح على الأقل) ، لا
عائلة ، لا مستقبل واضح ، لعب البولينغ أو لعب الورق أو السهرة في منزل صديق هي
محاولات بوبي لتجاوز بديهية سخطه على (ما آلت إليه بالفعل)
، و استخدام رافلسن المكثف هنا للقطات المتوسطة و المتوسطة القريبة في المشاهد الداخلية بقدر ما يمنح مشاهده بعض الحميمية تجاه الشخصية بقدر ما ينجح في
اظهار بعض العبثية و الفراغ فيها ، يحصرنا مع شخصيةٍ تبدو ساخطةً و غير مستقرة ،
ذلك الحزام الجليدي الذي غلف به بوبي سخطه يتبخر عندما يعلم بحمل صديقته ، نراه يطلب من صديقه التون - في
انفعالٍ لا يخلو من فوقية - الا يقارن حياته بحياته ، بوبي يرى في حياته
شيئاً مختلفاً قبل أن ندرك نحن كمشاهدين سبباً لذلك ، و التون لا يرى في تلك
الفوقية مشكلةً في صديقه ، مشكلة صديقه الحقيقية هي الشعور الذي سيواجهه عندما
يجرؤ على ترك صديقته وحيدةً في ظرفٍ كهذا ، في هذه اللحظة لا تبدو الحياة الكادحة
التي يعيشها بوبي نتيجةً غير مرغوبةٍ لـ (ما آلت اليه بالفعل)
، على العكس تبدو خياراً ، ندرك هنا أن اختيار نص رافلسن و جويس لعمل
بطله في (منشأة نفطية) مقصودٌ جداً ، و كاميرا لازلو كوفاتش (على
ذات دربها في Easy Rider قبل عام) تستخرج الصورة القاحلة لهذه البيئة الفقيرة بصرياً كي تجعل
من قرار بوبي - السهل جداً - بالاستقالة من عمله بعد علمه بحمل صديقته
نافذة لفهم حالة اللا استقرار التي جاءت به الى هنا ، يبدو لنا - و للمرة الأولى -
شخصاً قادراً على تفكيك حياته و استئصالها ثم الرحيل لبدء حياةٍ جديدة ، لا يبدو
هو ذاته و كأنما يعرف لم يفعل ذلك .
في النصف الثاني من
الفيلم عندما يقرر بوبي - أيضاً دون أن يدري لماذا - أخذ صديقته رييت و السفر
لزيارة عائلته يمارس النص بعض حيله ، يمر بوبي بجوار حادث سيارة و يقرر اخذ امرأتين غريبتين في سيارته ،
بطلة المشهد هنا امرأةٌ تبدو افكارها مزيجاً غير واضحٍ من الهيبية و العدمية ،
يحاول النص من خلال وجودها - الذي لا يمكن انكار افتعاليته - تقديم صورةٍ ابعد
للأزمة الوجودية التي يعيشها بطله ، بوبي ليس بحاجةٍ ليعيش حياة كتلك التي تنشدها المرأة في آلاسكا ،
شخصيته غير قادرة على التعامل مع العزلة المجتمعية ، هي تحب أن تكون بقرب من يهتمون
لأمرها حتى و ان لم تبادلهم ذلك ، لا يمكننا ان نغفل حقيقة أن رييت تحبه
أكثر بوضوح مما يفعل هو ، حياته تقع في منتصف الطريق بين (النمطية التي هرب
منها) و (الحياة التي تبحث عنها هذه المرأة وسط كل تلك الكراهية التي تحملها
للبشر) ، حيلة النص التالية مشهدٌ خاطف لأربعتهم في مطعم ، شخصية بوبي تتجلى
هنا بصورتها المجردة ، يرى الأشياء كما يحب أن يراها بعيداً عن قوالبها الجامدة ،
ما يريده مختلف حتى و إن كان اختلافه لا يحتاج للكثير من الجهد في تقبله ، عندما
يطلب (سلطة دجاج بدون دجاج !) يبدو الطلب مستفزاً ، غرابته في بساطته
و سذاجته ، لا رمزية هنا و لا استعارة ، هذا ليس مشهداً تأكيدياً ، هذه حياة بوبي كما هي
دائماً ، الرجل الذي يغادر سيارته في زحامٍ مروري ليتسلق شاحنة غريبة و يجد نفسه
بعيداً تماماً عن وجهته ، هذا هو ما يريده : الحصول على ما يريد دون
تبرير نفسه ، ذات الشيء الذي فعله مع والده ذات يوم عندما
انزلق بعيداً عن حياةٍ مرسومةٍ بالمسطرة رآها والده له ، عندما يلتقيه لاحقاً يعجز
بوبي عن تحمل مشاهدته في تلك الهيئة الضعيفة ، إعتاد على سطوته
، رؤيته ضعيفاً يكسر فيه مبرر الابتعاد الذي أوجده لنفسه ذات يوم : السلطوية التي تخلق الإعتياد
و النمطية ، ثقافة (جبرية) تشكيل الآراء و القيم و الشخصيات التي جعلته الآن يرى في
نفسه (خيبة الأمل الوحيدة لوالده) ، ذات الشيء الذي ينفجر من أجله في وجه
ضيفةٍ تزور العائلة و تقوم بمحاكمة تصرفات رييت (حتى و إن لم يكن هو ذاته على وفاقٍ مع تلك التصرفات) ،
مع ذلك هو ليس متحرراً بما فيه الكفاية من تلك السلطوية ، نراه في المشهد التالي
مباشرة يحاكم تصرفات شقيقته مع الممرض ، بوبي يبوح لوالده في مشهدٍ عظيم بالمبرر الذي جعله يتنقل
كثيراً من مكانٍ لآخر ، ليس لأن (الأمور سيئة) و إنما لخوفه (أن تصبح الأمور الجيدة
سيئة) فيما لو بقي ، خوفه الحقيقي كان مقدار التدمير الذي
تحدثه النمطية في الحياة ، مغزى أن تتوارث أسرةٌ بأكملها حب الموسيقى و العمل فيها
، أزمته لم تكن في الموسيقى بقدر ما كانت في جمود الحياة التي رسمتها فيه ، نراه –
في لقطة 360 درجة تستمر لدقيقتين - يعزف لكاثرين دون (إحساسٍ داخلي) بالموسيقى التي يعزفها ، هي مجرد (قطعةٍ سهلة)
تعلمها في طفولته ، يخبرها أنه زيّف شوبان كما زيّفت هي رد فعلها تجاه عزفه ، ما جذبه في كاثرين هو
كونها شيئاً مثيراً للإهتمام بنظره في عالمٍ رمادي ، ليست علاقةً عاطفيةً أو نزوةً
جنسية أو شيئاً لملء الفراغ ، هو ذاته لا يدري ماهيتها ، يثيره و ربما يثيرنا نحن
أيضاً ما الذي يجبر فتاةً جميلةً مفعمةً بالحيوية أن تقيم مع أسرةٍ مملة و شريك
عزفٍ أخرق مصابٍ في عنقه ، ما رآه فيها هو (صحن سلطة الدجاج بدون دجاج)
، الشيء غير المألوف و سط عالمٍ من الألفة ، بدايةٌ جديدة في فصلٍ لم ينتهِ سابقه
، أزمةٌ وجوديةٌ بطلها الحب الذي لا يحصل عليه بوبي لأنه لا يقدمه
في الأساس ، هو على خلاف كل الكادحين في عالمه ، لم يكن يبحث عن (نهاياتٍ سعيدة)
، كان على الدوام يبحث عن (بداياتٍ سعيدة) ، لا يعلم بأمر النهايات لأنه يفر دائماً قبل
أن تطل برأسها ، كما نراه في ختام الفيلم ، نهايةٌ تحمل توازناً عجيباً بين صورتها
المجردة لرجلٍ غادر حياته على متن شاحنة أخشاب و ترك صديقته الحامل وراءه ، و بين
صورتها الرمزية لرجلٍ يحقق انعتاقاً نحن ندرك الآن أنه مجرد انعتاقٌ لحظي ، بحث عن
بدايةٍ سعيدة دون أن يجرؤ على النظر في النهاية التي خلّفها وراءه .
ربما يعيبه قليلاً
مستوى الإندفاع الذي نراه في علاقة بوبي بكاثرين و في بعض تتابعات الحدث ، مع ذلك يكتسب هذا الفيلم
مذاقاً أفضل في مشاهدةٍ تالية ، يصبح من السهل تقدير عمل لازلو كوفاتش على
تحويل فيلمٍ متواضع التكلفة و فقيرٍ بصرياً على الورق إلى شيءٍ ذو هوية ، و تصبح
أداءاته الثانوية أكثر بروزاً حول أداءٍ كبير من جاك نيكلسن (في
ترشيحه الثاني للأوسكار) ، في ختامه يمكن بسهولةٍ أن تفهم قيمة هذا العمل كمعلمٍ
ثقافيٍ مهمٍ عندما لم تكن السينما الأمريكية تنتج أفلاماً كهذه أواخر الستينيات و
أوائل السبعينيات ، اليوم أصبح من السهولة أن نجده مع The Last Picture
Show و Easy Rider و American Graffiti عندما نستذكر مخاضات هوليوود الجديدة .
0 التعليقات :
إرسال تعليق