كتب : محمود عياد
التقييم : 5/5
بطولة : ليف أولمان ، بيبي أندرسن
اخراج : انجمار بيرجمان (1966)
ربما مثّل بيرسونا تحولا
- متطرفاً - في مسيرة بيرجمان الشخصية و الفنية علي حد سواء ، الرجل نفسه صرح في غير
موضع أن هذا الفيلم أنقذ حياته ، لم يبغ من وراء صنعه لهذه التحفة شديدة الغموض أي
نجاح لا علي المستوي النقدي و لا الجماهيري ، كان الأمر بالنسبة له شخصياً بالدرجة
الأولي ، في بدايات عام 1965 كان بيرجمان في أشد حالاته سوءا ، علي المستوي الفني كان عمله كرئيس
للمسرح الدرامي الملكي في السويد يعاني فشلا ذريعا ، علي المستوي الشخصي كان مريضا
بفيروس في أذنه الداخلية أصابه بالدوار الشديد و أصبح مٌقعداً ملازماً للفراش بشكل
كامل لعدة أشهر ، في ظل هذا الظلام المحيط بالرجل من كل جانب كان في حاجة لفعلٍ ما
يعيده إلي الطريق الصحيح ، كان في حاجة لخلاص ما ، ربما وجد خلاصه هذا في بيرسونا .
علي صعيد الأسلـوب ، احتذي
بيرجمان هنا منحيً ذا طبيعة سينمائية خالصة ، نأي بنفسه عن القيود
المسرحية التي غلفت كل أفلامه السابقة سواء علي مستوي النهج السردي أو المضمون ، يمكن
القول ان بيرسونا نقل بيرجمان - متأخرا - ليلحق بركب الحركات السينمائية الجديدة في اوروبا
، من ناحية أخري الفيلم يمثل نقلة في نوعية الموضوعات التي تناولها بيرجمان في افلامه
، بعد سلسلة أفلام تناولت الإنسان من السطح .. علاقته بالله و تفاعلاته مع البشر من
حوله ، هنا بيرجمان يضرب في العمق ، يبحر في أحلك هواجس النفس البشرية و أكثرها
رعباً ، أعتقد انه يقدم هنا تجربة ذاتية للغاية ، بطريقة شديدة الإضطراب و الجموح ،
الفيلم ينتمي إلي تلك النوعية من الأفلام التي لا يمكن فهمها او استيعابها بشكل كامل
بنفس القدر الذي يمكن به الحديث حولها ، بشكل عام ما يميز بيرسونا هو اختلاف طريقة
التعاطي النمطية مع شريط السينما كمجرد وسيلة عرض للأفكار و المشاعر ، بيرجمان يقدم هنا
شريط سينمائي حي ، له كيان مجسّد ككائن يتنفس ، الشريط نفسه جزء من الحكاية ، يراقب
الأبطال كمشاهد و يتفاعل معهم في معضلتهم ، الفيلم يبدأ بولادة الشريط ، إنارة أليافه
الكاربونية ، و ينتهي بموته التدريجي و انطفائها ، في لقطة في منتصف الفيلم تقريبا
، ينهار الشريط و يبدأ في الهذيان قبل أن يستعيد وعيه مرة أخري ، يحدث ذلك في ذات اللحظة
التي يمر فيها بطلي الفيلم بلحظة انهيار ، الشريط يمثل انعكاسا ذاتياً لصانعه ، لذا
يبدأ مباشرة في عرض مجموعة الصور العشوائية غير المرتبطة التي تدور في وعيه و ذاكرته
، لقطة من أحد أفلام الرسوم المتحركة الذي يبدو انه كان مفضلا لبيرجمان في طفولته
، عنكبوت متحرك ، مشهد لإنسان يخرج من خزانة محاولاً الفرار من هيكل عظمي و مصاص دماء
من فيلمه الأربعيني " السجن " ، لقطة شتائية من الضيعة التي كان قضي بها طفولته
، لحظات سريان الدماء من رأس شاه مذبوحة ، لحظة الصّلب ، عجوز ميتة تعود إليها الحياة
فجأة فينهض طفل صغير من الموت ليضع يده علي شاشة باهتة تدب فيها الحياة تدريجياً ،
الرجل رغب بدايةً في تسمية الفيلم Kinematography
- نسبة إلي تلك الإفتتاحية
ديناميكية المونتاج - ، قوبل ذلك بالرفض - طبعاً - لأسباب تسويقية .
يتخذ الشريط بعد ذلك وضع
المشاهد ، يراقب كلا من ألما و إليزابيث من بعيد ، إليزابيث .. ممثلة مسرحية توقفت فجأة عن الكلام أثناء تأديتها دوراً
علي المسرح بلا أسباب ظاهرية و لم تنطق بعد ذلك مما أدي إلي احتجازها في مصحة نفسية
، ألما .. ممرضة تتولي مسؤولية الاعتناء بها في سبيل حثها علي الكلام
مرة أخري ، في البداية تظهر ألما متقبلة تماماً للواقع ، ذات حياة تبدو مستقرة ، تعمل في وظيفة
جيدة ، في الطريق للزواج من شاب - تقول - أنها تحبه ، علي عكس إليزابيث المفترض
أنها تحمل هماً شديداً - أو ربما رفضاً لواقعها - حملها علي الصمت التام ، ألمعية النص
هنا تكمن في تقلبه المتطرف ، بمرور الوقت نكتشف أن الامر ليس كما يبدو ، تظهر - ألما
- هشة تماماً من الداخل رغم استقرارها الظاهري ، لا تتوقف عن الكلام و البكاء و الشكوي
، بينما تستجمع -اليزابيث - قوتها من صمتها ، يقول كازانتزاكيس "الكلمات لا يمكنها أبداً
أن تخفف عما في قلب الإنسان ، الصمت وحده قادر علي فعل ذلك" ، إليزابيث اختارت
صمتها بإرادتها الحرة ، لم تستطع الكلمات أن تحوي ما بداخلها و إنما وجدت ضالتها في
الصمت ، الصمت أيضاً أعطاها قوة مسيطرة علي ألما ، في اللاتينية
" ألما " تعني الروح بينما " إليزابيث " تعني
السيد أو المتحكم ، الأمر كله يمكن اختصاره ببساطة في الأسماء ، لا يمكن هنا بأي حال
وضع حدود فاصلة بين الواقع و الخيال او الحقيقة و الحلم ، النص يخرج كثيراً عن حدود
الزمان و المكان ، في مشهد في منتصف الشريط تقريباً ، تذهب ألما إلي الفراش
و نسمع بعد ذلك همساً من إليزابيث تنادي عليها ، يلي ذلك اللقطة القريبة الشهيرة حيث تميل
اليزابيث علي رقبة ألما تماماً كما يفعل مصاص الدماء مع فريسته
- تمتص دمها - حرفياً - في لقطة في تتابعات النهاية - ، ربما حدث هذا حقاً ، ربما كان
الأمر برمته حلماً ، الغريب أن ما حدث يمكن اعتباره عضة مصاص دماء فعلا ، أضحت إليزابيث
مسيطرة تماماً علي وعي فريستها ، يعزز ذلك مشهد لاحق يظهر فيه زوج إليزابيث - سواءاً
كان ظهوره حقيقياً أو أغلب الظن في لا وعي ألما - ليطمئن علي حالة زوجته و يخبرها بشوقه
لها ، يضع يده علي كتف ألما و يناديها إليزابيث ، لا تُظهر اعتراضاً يُذكر ، تُمسك
إليزابيث - الحقيقية - بيد ألما لتضعها علي وجهه ، ثم تأوي معه
إلي الفراش ، يُظهر لا وعي ألما علي فترات إعتراضاً علي سيطرة سيدتها ، محاولات مستميتة
للمقاومة ، في المشهد الأشهر في الفيلم - حيث الالتحام بين وجهي ألما و اليزابيث -
تتضخم أحلك هواجس اليزابيث و أكثرها رعباً ، يتحرر لا وعي ألما من سيطرة سيدتها بعد
أن نجحت في استغلال أقوي نقاط ضعفها ، تصرخ في نهاية المشهد "أنا لست مثلك ، لا أشعر
بما تشعرين ، انا الأخت ألما و انا هنا لمساعدتك ، أنا لست إليزابيث فوجلر ، أنتي إليزابيث
فوجلر" ، أتحررت ألما فعلا من سيطرة إليزابيث ؟؟ ، أم أنها
تُظهر ذلك فقط و لم تزل مقتنعة من داخلها إنها تشبهها كثيراً في كل شيء ؟؟ ، أيحدث
أي من هذا في الواقع أم أن الأمر كله رمزياً للعلاقة - تبادلية السيطرة - بين الفنان
و المتلقي ؟؟ ، أخرجت إليزابيث من صمتها المطبق و عادت إلي الحديث ؟؟ يبدو أنها عادت
إلي عملها مرة أخري ، أين ذهبت ألما بعد أن استقلت الحافلة - منفردة - ؟؟ ، ماذا حدث
لها ؟؟ هل تغير أي شيء في حياتها أم أنه الاستقرار الكاذب المعهود ؟؟ ، لماذا اختار
بيرجمان " القناع " اسما لفيلمه هذا ؟؟ ، هل هو قناع الاستقرار الظاهري
الذي يخفي بركاناً داخلياً كما - ألما - ؟؟ ، هل هو قناع الصمت التي تخفي خلفه - إليزابيث - معاناتها
؟؟ ، أم أن هناك مغزيً آخر ؟؟ ، ماذا حدث - حقاً - العام الماضي في مارينباد
؟؟ ، ماذا حدث للفتاة في مغامرة انتونيوني ؟؟ ، هل لأي من هذه الأسئلة إجابة شافية حقاً ؟؟ أم انها
تبقي بلا إجابة ؟؟ أم أن الإجابة ليست ذات قيمة علي أي حال ؟؟ ، إنها الرغبة المحمومة
في المعرفة ، معضلة الإدراك التي قُتلت بحثاً ، التمرد علي إشباع الوعي المعتاد في
السرد الكلاسيكي ، علي أي حال ، و بعيداً عن كل ذلك ، يبقي "القناع" واحداً
من أرقي الأفلام التي تناولت النفس البشرية و معضلة الفنان الذاتية بالدراسة و التشريح
علي مر العصور .
0 التعليقات :
إرسال تعليق