كتب : مصطفى الباجوري
التقييم : 5/5
بطولة : جون فينش ، فرانشيسكا أنيس
إخراج : رومان بولانسكي (1971)
من المدهش فعلا تأمل
ماذا فعل المخرج الرائع رومان بولانسكي بمسرحية شكسبير الشهيرة "مكبث" عندما قدمها في فيلم من إخراجه في أوائل السبعينات ومشاهدة
كيف جعل بولانسكي مكبث تبدو
وكأنها كتبت من البداية لتكون فيلما من أفلامه للدرجة التي تجعلنا نتساءل هل يمكن قراءة
مكبث بعد الآن برؤية مختلفة عن رؤية بولانسكي في هذا
الفيلم !
تبدأ الأحداث عندما
ينتصر جيش الملك دنكن، ملك اسكتلنده، في احدى المعارك المهمة ويرجع الفضل في
هذا الانتصار لقائد شاب يدعى مكبث وزميل له يدعى بانكو وفي أثناء عودتهما من المعركة يعثران على كهف مظلم
بداخله نساء عواجيز قبحيات المنظر يمارسن السحر والأمور الغريبة . تلقي الساحرات علي
مسامعهما نبوءة خطيرة وهي أن مكبث سوف يصبح أمير كودور و جلامس ثم يصبح
بعدها الملك وأن بانكو سوف يصبح دون مكبث وأعلى منه شأنا ولن يصير ملكا ولكن سيكون أبا وجدا لسلسلة
طويلة من ملوك اسكتلنده . تثير تلك النبوءة شيئا غامضا في نفس مكبث خصوصا
بعد أن يتحقق جزء منها كما قالت الساحرات ويجعله الملك دنكن أميرا لكودور و جلامس مكافأة
له على إخلاصه وولائه وعلى الانتصار الذي حققه . يتحول الغموض إلى فكرة شريرة
تحاول أن تتتبع الخطوات على الطريق الذي مهدته النبوءة العجيبة ، يرسل مكبث خطابا
إلى زوجته يخبرها فيه بما قالته الساحرات ويخبرها بالفكرة المخيفة التي نبتت بذورها
في داخله من العدم تقريبا وهي أن يقوما بقتل الملك دنكن أثناء زيارته لهما ويستولي
هو على العرش وتصبح هي الملكة .
في مكبث الأصلية لشكسبير وفي
كل اقتباس سينمائي لها بما فيها فيلم بولانسكي ينقسم السرد بالنسبة للتغيرات النفسية التي تحدث لمكبث وزوجته
إلى جزئين ؛ في البداية يكون مكبث متردد وخائف من قتل الملك وتظهر عليه حالة التردد
الأخلاقية المسيطرة على هاملت في رواية شكسبير الأشهر بينما زوجته على العكس تماما
تبدو صارمة وحازمة وتدفعه لطلب المجد وإرضاء الطموح كالرجال ومواجهة الخوف
والمبادرة إلى الفعل . لا يعدو قتل الملك في الحقيقة سوى خطوة أولى في طريق السقوط
المأساوي لمكبث ، فيرسل من يقتل بانكو وابنه خوفا من تحقق النبوءة
الخاصة بهما فليس المهم أن تصبح الملك ولكن الأهم أن تجعل الملك آمنا لك ولأسرتك
من بعدك . تسوء حالة مكبث النفسية و وتستنزفه الهلاوس وقلة النوم ثم تظهر له في كل
مكان أشباح دنكن و بانكو مما يجعله يفقد عقله بشكل يكاد يكون كاملا وتستمر زوجته
في توبيخه لضعفه . يذهب إلى كهف السحرات مرة آخرى بحثا عن خلاص روحه حيث تستغرقه نوبة
جديدة من الهلاوس تخبره الساحرات فيها بأن لا أحدا ولدته امرأة يستطيع هزيمته ولن يفقد
العرش حتى تتحرك غابة دينسين إلى قلعته . تتغير الحالة النفسية لمكبث وزوجته
بعد تلك الزيارة وتتبدل الأدوار بينهما ؛ تسيطرعلى مكبث حالة من
اللامبالاة والشجاعة البلهاء متأثرا بهلاوس الساحرات بينما تفقد الليدي مكبث عقلها
تماما وتمضي أغلب الوقت غائبة عن الوعي متخيلة قتل دنكن مرة بعد آخرى مفزوعة من
منظر الدماء التي لا تريد أن تنمحي من على يديها وتلقي بنفسها من الشرفة في
النهاية .
مكبث هي أقصر دراما كتبها
شكسبير وأكثرها تكثيفا وذلك يجعل مأساة السقوط والانهيار
الكلاسيكية تتملك من المتلقي نفسيا ودراميا بشكل يفوق أي دراما آخرى لشكسبير
والسبب الآخر في كونها المأساة الأخلاقية الأعظم لشكسبير هي أنها لا
تنبني على التردد الأخلاقي الذي يشل الفعل ويحير الإرادة مثل هاملت ولكنها
تعبر بشكل عميق وحقيقي عن امتزاج الخير والشر وتصارعهما معا في فعل الخطيئة نفسه وتعبر
عن الخطيئة كوجود أولى مجرد ودافع إنساني متأصل ، المأساة هنا تتجاوز التناقض
النفسي والأخلاقي بين الفعل واللا فعل والسقوط في الخطيئة ثمنا للشهوة والطموح، تتجاوز ذلك لتناقش طبيعة الطموح
نفسه وتتساءل عن الحد الرقيق الذي يفصل بين الطموح البرئ وبين التورط في الخطيئة أو
ما الذي يحدد أخلاقية فعل ما أو لا أخلاقيته إذا كانت دوافعه في كل الحالات هو الشهوة
والطموح في عصر مليء بالانتهازية والقتل والخيانة !
ينساق مكبث إلى طريق
قدري ومصير لا هروب منه ، يتخلى عنه الجميع ، تحاصره الهلاوس وتنتحر زوجته ويستبد
به الجنون . تطارده السهام بنفس الطريقة
مرة بعد آخرى حتى ليبدو أنه كان طوال حياته في هذه المطاردة الأزلية، المطاردة
التي لا يستطيع الخلاص منها ولا النجاة من نهايتها المأساوية مثلما نشاهد في نهاية
اقتباس أكيرا كيرواساوا لمكبث في فيلمه البديع " عرش من الدماء " (1957) Throne of Blood .
مع بولانسكي لا يكون
التركيز على دور الليدي مكبث باعتبارها الشيطان و الدافع الأصيل للخطيئة
والخيانة ، أيضا لا تسير الأمور على نحو مأساوي من تلاعب القدر بمصير الإنسان
وانسحاق الإرادة أمام هذا المصير العبثي فحسب بل يهتم بولانسكي أكثر بتعرية
الخطيئة وكشفها عن الشر والرغبات الدنيئة الكامنة في أعماق النفس البشرية. حالة
استسلام كاملة للتشاؤم والسوداوية وشعور بالفزع والتلاشي من تجلي الحقيقة بشكل
يبعث على الخوف والانقباض . كل مشاهد القتل والتدمير نراها بأكثر الصور وضوحا
وبشاعة ودموية : ذبح مكبث لدنكن ، اغتصاب وقتل عائلة مكدف وحرق قلعته بكل من فيها عقابا
له على الهروب إلى انجلترا وتكوينه جيشا لمحاربة مكبث ، قتل بانكو
المخلص بتحريض من مكبث ، جثة الليدي مكبث على الأرض وسط القلعة ، المبارزة الدامية الطويلة بين مكبث ومكدف التي
تنتهي بقتل مكبث وفصل رأسه عن جسده . كل تفاصيل القتل و سفك الدماء التي
أخفاها شكسبير بين فصوله معطيا أحداثه الغموض والمبالغة الدرامية نشاهدها مع بولانسكي واضحة
بأدق تفاصيلها مما يجعلنا نشعر بالرعب والانهيار الذي يعاني منه مكبث وزوجته
ويجعلنا نتعايش لأول مرة مع التأثير النفسي الحقيقي لكل تلك الدموية والخيانة في
مأساة مكبث .
الصورة يغشيها الضباب
والسماء ملبدة بالغيوم والألوان قاتمة والهلاوس هامسة بصوت الأنفاس الخائفة ، لا
صوت مسموع غير نعيق الغربان والأمطار وصوت السكون ، كل الشخصيات الأخرى عدا مكبث وزوجته
مستقيمة وأخلاقية ، مكبث وزوجته كأنهما معزولان لا يسمع حديثهما المتآمر أحد ممن
حولهما ، مكبث ضعيف وساذج لا تخرج أفكاره وكلماته ومنولوجاته الشعرية
خارج إطار عالمه الداخلي شديد الحساسية، الساحرات عاريات والليدي مكبث عارية
وطفل مكدف الصغير عاري ، المرايا في كل مكان تعكس الرغبات المخيفة المدفونة في أكثر
أماكن النفس تعقيدا وظلمة وخفاء وتجعلها حقيقة واضحة مثيرة للرعب والقلق .
إن ما قام به بولانسكي هو خلق
حالة كاملة من الوحدة والاغتراب النفسي الذي يرافق السقوط في الخطيئة والفزع الذي
يثيره انكشاف الحقيقة و تجسد اللاوعي المظلم والسوداوي بدون أي تجميل أو مراوغة .
مع مرور الوقت أصبح
بالنسبة لي التمييز بين نص شكسبير وبين فيلم بولانسكي يحتاج
استدعاء قدر كبير من التركيز والتأمل وأصبحت رؤية بولانكسي بعنفها الدموي
القاسي وأثرها النفسي المرعب الذي يتجمع كحبات مطر خفيفة متتابعة على سقف خشبي
متهالك على وشك الانهيار والسقوط ، تلك الرؤية أصبحت متداخلة ومتماهية تماما مع
مأساة مكبث المليئة بالخيانة والقتل والمصير البائس والشهوة والسقوط
في الخطيئة ، وأصبحت تستدعي أول ما تستدعي في الذهن حكاية إنسان يقف عاريا أمام
نفسه ويجابه مصيره وحيدا بعد أن تقطعت أوصاله وتلاشت روابطه بكل شيء ، حكاية مليئة بالصخب والغضب ولكنها
ليست لها معنى ، حكاية تافهة تليق بأن يتلوها أحمق كما يقول شكسبير .
0 التعليقات :
إرسال تعليق