كتب : مصطفى الباجوري
التقييم : 4/5
بطولة : جان غابان ، بيير فريسناي ، إيريك فون شتروهايم
إخراج : جان رينوار (1937)
في المشاهد الأولى لفيلم "الوهم الكبير" لجان رينوار، ضابطان
فرنسيان تسقط طائرتهما ويقعان في الأسر لدى القوت الألمانية أثناء الحرب العالمية
الأولى، يقوم الضابط الألماني الذي أسقط الطائرة بدعوتهما لتناول الطعام ويتحدثون
جميعا في أجواء ودية للغاية ، ما نشاهده منذ اللقطات الأولى ليست الحرب التي نعرفها ولا هو الوقوع في الأسر
كما نتخيله ولا هكذا يتصرف الجنود المتحاربون تجاه بعضهم البعض ، أول ما يتبادر
إلى الذهن أنهم مجموعة من الرجال في طريقهم إلى حفلة عشاء وهم في غاية التأنق !
الضابطان الفرنسيان
أحدهما ضابط أركان حرب أرستقراطي يدعى بولديو والآخر ملازم من الطبقة العاملة يدعى مارشيل، يتم إرسالهما
إلى معسكر الاعتقال وتستمر الأجواء الغير مألوفة فالمعسكر لا يبدو مثل معسكرات
الاعتقال التي نسمع عنها ونراها في
الأفلام الآخرى ، القوانين أقل صرامة والجنود الألمان متعاونون والأسرى يتمتعون
بقدر من الحرية ، ينضم بولديو ومارشيل إلى مجموعة آخرى من الأسرى تتكون من مدرس وممثل فكاهي
ويهودي من عائلة غنية تمتلك أحد المصارف .. وكالعادة تقوم هذه المجموعة بحفر نفق
يمر أسفل جدران المعسكر كي يتمكنوا من الهروب ويقرر بولديو ومارشيل
الانضمام للمجموعة في محاولة الهروب الجماعية .
من البداية يظهر عدم
اهتمام رينوار بالحكاية الأساسية وهي الهروب من معسكر الاعتقال بقدر
اهتمامه بشخصياته الرئيسية ويحاول تعريفنا بهم عن طريق مجموعة من الحوارات التي تدور
بينهم ، حوارات تركز على الاختلافات من حيث الطبقة الاجتماعية والمستوى الثقافي
والاقتصادي مثل المطاعم المختلفة التي يفضلون الذهاب إليها في بلدهم وتنوعها من المطاعم
التي لا يرتادها إلا الأغنياء إلى الحانات الصغيرة أو حتى مجرد تناول الطعام في
المنزل . يركز رينوار على هذا المعنى بشكل أساسي وهو كيف لمجموعة من الأشخاص المختلفين
عن بعضهم في كل شيء، يواجهون مع ذلك نفس المصير حتى الهدف الذي يريدون الهروب من أجله يختلف من
واحد لآخر، من يهرب لمواصلة القتال ومن يرغب في العودة لزوجته ومن يتطلع للمغامرة
في حد ذاتها .
رينوار لا يقدم فيلما عن
الهروب من معسكرات الاعتقال ، هذا واضح من البداية ولكنه يتأكد عندما يتقرر نقل
الأسرى وتوزيعهم على معسكرات آخرى بعد أن كانت المجموعة على وشك الانتهاء من حفر
النفق . وفي المعسكر الجديد يكون الضابط الألماني المسؤول هو نفسه الضابط الذي
أسقط الطائرة في بداية الفيلم بعد إصابته ونقله بعيدا عن ساحات القتال، رينوار في
المقابل يركز على الجانب الإنساني في الحكاية بشكل كبير ويعطي شخصياته مساحة واسعة
للتعبير عن نفسها بشكل جيد حتى لو كانت شخصيات نمطية للغاية في بنائها مثل المدرس
الذي يقرأ الكتب طوال الوقت ويحدثهم دائما عن الشعر اليوناني واليهودي من الأسرة
الغنية صاحبة البنوك والممثل الكوميدي الساخر .
جزء كبير من حيوية
السيناريو يرجع إلى عدم وجود أشرار بالمعنى المعتاد أو بأي معنى وإلى عدم وجود
إدانة لشخص أو فكرة سوى وهم الحروب التي تجمع الناس على اختلافاتهم في مصير بائس
مشترك . كل شخصيات الفيلم لديها جانب إنساني ، الحارس الذي يتعاطف مع مارشيل في
الحبس الانفرادي ويعطيه الهارمونيكا قائلا في أسى "إنها حروب طويلة جدا"
، الضباط الألمان أثناء مشاهدة الاستعراض الفكاهي الذي يقدمه الأسرى يكادوا يذوبون
وسط بقية المشاهدين من الأعداء لولا الجدار الفاصل بينهم ، الضابط الألماني روفنشتاين الذي
تنشأ بينه وبين بولديو صداقة خاصة ، هذه الصداقة التي تضيف عمقا إلى السيناريو
فهما يمثلان الأوضاع الإجتماعية القديمة في أوروبا التي في طريقها إلى التحلل
والزوال ، المرأة الألمانية التي تستضيف في بيتها مارشيل روزنتال بعد
أن ينجحا في الهروب وعلاقة الحب التي تنشأ بينها وبين مارشيل ، العلاقة
التي تتجاوز الظروف المحيطة بهم والاختلافات الموجودة بينهما ولكنها لا تكتمل بسبب
تهديد الحرب الموجود باستمرار .
هجائية رينوار للحروب
في الوهم الكبير موزعة بين التفاؤل والحذر، التفاؤل من مصير مختلف للإنسانية بعد
حرب عالمية قاسية من خلال تمكن مارشيل و روزنتال من الهروب في النهاية ، أوروبا الجديدة المتفائلة بعد
الحرب في مقابل الأرستقراطية القديمة المنزوية في الظلام ، على جانب آخر شبح الحرب
القادمة يسيطر تماما على الأجواء وأوضاع أوروبا القلقة في الثلاثينيات منعكسة على
الفيلم بشكل كبير فالفيلم تم تصويره في الوقت الذي كانت فيه الفاشية تهدد أوروبا وقبل
سنوات قليلة من وصول هتلر للحكم والأوضاع التي خلفتها الحرب تنذر بحرب جديدة قادمة
لا محالة .
واقعية رينوار تعتمد على اللقطات الطويلة والمشاهد الطويلة وتمتزج
بداخلها الفكاهية والميلودراما ، واقعية مراهقة تتحسس خطواتها وسط سينما
الثلاثينيات وبدايات السينما الناطقة بشكل عام ، واقعية تعيد قراءة الواقع برؤية
اجتماعية واضحة وخط سردي بسيط لكن تظل القيمة الأعظم التي نشعر بها ونحن نشاهد
أفلام رينوار هذه الأيام هي أنه يصور جميع شخصياته بحب وتعاطف شديدين
وبدون تنميط لفكرة الخير والشر و يستطيع أن يضخ في أفلامه قدرا هائلا من الشاعرية
والانسانية تكشف في في كل لقطة وفي كل مشهد عن شغف حقيقي بالسينما واحساس صادق
تجاه الواقع ، هذا ما يجعل الوهم الكبير عمل كلاسيكي باقي في ذاكرة السينما كواحد
من أهم الأفلام المناهضة لوهم الحروب والقوميات والتعصب .
0 التعليقات :
إرسال تعليق