كتبت : فاطمة توفيق
التقييم : 5/5
بطولة : آغاتا كوليتشا ، آغاتا تشيبوتشوفسكا
إخراج : بافل بافليفوفسكي (2014)
في البداية تظهر (آنا) أو (إيدا) في
زاوية الصورة دوماً، من حولها فراغ أبيض كبير، أو كيانات متكررة تشبه بعضها متمثلة
في عناصر الدير من بشر وأشياء، ويظل الأمر على هذا الحال حتى تبدأ في رحلتها إلى
خالتها، هنا تكون هي مركز الصورة ومحورها الذي تدور من حوله الكاميرا، تقترب
الكاميرا من وجهها لأول مرة فنرى مشاعرها واختلاجاتها عن قرب. ما فعله المخرج بافل بافليفوفسكي
والمصورين السينيمائيين ريزارد ليكنزويسكي و لوكاز زال لم يكن فقط مجرد إدارة للكاميرا لانتاج صورة جميلة و
أخاذة كالموجودة في الفيلم، وإنما موقع إيدا من الكاميرا ومن زوايا الصورة كان انعكاس لموقعها من
نفسها ومن حياتها، حينما كانت في زاوية الصورة وحينما كانت تشبه كل من حولها في
الدير كانت لا تعرف عن نفسها شيئاً وكان كل ما يشغلها هو مهام العمل في الدير
مثلها مثل باقي الراهبات من حولها، ولكن ببداية رحلتها وبداية تركز الكاميرا عليها
كان بداية التعرف على نفسها وعلى حقيقتها.
في الأساس الفيلم يدور حول هذه النقطة، مقدار ما تعرفه عن نفسك، ومقدار ما تعرفه
عن نفسك لا يعني هنا معلومات عن الهوية والأصل فقط كما في بداية الفيلم، وإنما
أيضاً يشمل مدى قدرتك على اتخاذ قرارات ومواجهة مواقف لم تتعرض إليها من قبل،
القدرة على تقبل ما لا تقبله بل وتغيير نفسك والاستجابة لرغباتك إن أتاحت لك
الفرصة ذلك.
الفيلم في كل ذلك يشبه أي فيلم (رحلة طريق)، قد يجد البعض أن اعتبار الفيلم (رحلة طريق) يختزله لكون الرحلة التي قامت بها إيدا مع خالتها لا تشمل الفيلم كله، ولكنني أجد أن الرحلة لا تقتصر على ذلك - وإن كانت محور الأحداث - وإنما الرحلة تبدأ منذ اللحظة تركت فيها إيدا الدير وحتى نهاية الفيلم، الرحلة كانت على طريق روحها وأصلها الذي لا تعرفه، رحلة تعرفت فيها على هويتها الحقيقية وعلى نفسها ورغباتها وضعفها البشري، رحلة تشبه رحلة أي انسان تخرجه من عالمه الضيق المريح إلى عالم واسع مخيف ذي خيارات متعددة، والفيلم أظهر أن المرجِع للانسان في مواجهة كل هذه الأمور لم يكن للأخلاق أو القواعد التي تربى عليها وإنما كان المرجع هو قدرته على مواجهة كل هذا ومدى اهتمامه بصورته أمام نفسه وأمام الآخرين، وتجلى ذلك بشدة في الفترة التي عادت فيها إيدا إلى شقة خالتها بعد موتها. إيدا كانت إظهار مكثف للنفس البشرية التي هي ليست راهبة طوال الوقت ولا عاهرة كما وصفت خالتها نفسها، هي كانت إنسانة وفقط. والنفس البشرية هذه لم تظهر من خلال إيدا فقط وإنما من خلال خالتها، ومن خلال قاتل والديها وأبوه المريض في المستشفى، الفيلم كان عبقرياً في إظهار كل هذه الطبقات من الشخصية الواحدة في وقت قليل وبأقل كلمات.
الفيلم تتجلى عبقريته أيضاً في كونه مُجمِل وذكي وسريع، فمن خلال ثمانين دقيقة فقط حكى عن معاناة اليهود أثناء الحرب، حكى عن فترة الخمسينات والستينات في تاريخ بولندا حيث المظاهرات وعدم الاستقرار السياسي، حكى عن حياة الأديرة والرهبنة ليضعك أمام أسئلة عن مدى اتفاق هذا الأمر مع الطبيعة البشرية، كل ذلك مع الشخصيات أمام الشاشة بكل ما تواجهه ومع طبقة من الكوميديا الرقيقة المختبئة تحت كل هذه الأحداث والتي تجعلك تضحك أو تبتسم تعاطفاً مع ما يحدث، والآداءات العظيمة من آجيتا ترزيبوكواسكا التي أدت دور إيدا وهو دورها الأول أمام الكاميرا حيث أنها ليست ممثلة محترفة بل فتاة قابلها أحد أصدقاء المخرج في أحد الكافيهات ورشحها للدور بعدما فشل المخرج في بحثه عن ممثلة تصلح لتأديته، وكان آداءها للدور عظيماً و ذكرني كثيراً بالرائعة ليف أولمان في ثِقَل ما قدمته، والأداء الرائع أيضاً من آجيتا كليسزا التي أدت دور فاندا ببراعة أبرزت من خلالها مدى التشوه الذي يحفره التاريخ القبيح على روح الانسان، بالإضافة إلى الصورة الأخاذة المبهرة التي تم تقديم الفيلم بها وخاصة من خلال لقطات طويلة ثابتة تشبه حياة إيدا وتغليف ذلك باللونين الأبيض والأسود لمناسبة الفترة التاريخية أولاً ثم للاقتراب من روح الشخصيات بدون بهرجة أو تكلف، مع الموسيقى التي نستمع إليها في أغلب الفيلم وكأنها صدى يأتي من بعيد، صدى يبرز وحدة إيدا وخالتها وانعزال كل منهم عن العالم، صدى يحفز على الخوف الذي تشعر به إيدا تحديداً ويشبه في بُعده الماضي الذي تبحث عنه.
0 التعليقات :
إرسال تعليق