السبت، 30 مايو 2015

The Searchers

كتب : محمود عياد

التقييم : 5/5

بطولة : جون واين ، جيفري هنتر ، نتالي وود
إخراج : جون فورد (1956)

هذا الفيلم هو عمل جون فورد الأكثر كمالاً ، من الممكن قول ذلك بكل أريحية رغم غزارة فيلموجرافيا الرجل و تنوعها ، الصعوبة في هذا الوصف تكمن في الحديث عن أسبابه ، قد يُجمع الكثيرين علي تفرد " الباحثون " علي عديد المستويات ، و لكن إذا ما سئلوا عن أسباب ذلك التفرد لن تجد إجابةً شافية ، ربما لأن الاجابات كلها ستتمحور حول جون فورد نفسه ، حول أسلوبه السهل الممتنع الذي يظهر بساطة ما علي السطح و لكن في العمق يٌظهر صعوبة أكبر بكثير مما يبدو ، حول شخصيته الثابتة المستقرة الأركان التي يمكن ان تشعر بها بمنتهي السهولة في كل أفلامه تقريبا ، و بالتالي يبدو الأمر الأكثر صعوبة هنا في إجابة سؤال ملح هو "لماذا "الباحثون" بالذات ؟؟ بمعزل عن اجابة سؤال آخر هو "لماذا جون فورد " بالذات ؟؟  .

أعتقد أن الاجابة مرتبطة بطريقة ما بالأسطورية المسيطرة تماما علي الأجواء ، افلام الغرب الأمريكي عموما تتميز باللمسة الأسطورية في تسلسل أحداثها و تكويناتها البصرية بدرجات مختلفة ، ربما مثّل الفيلم قمة الهرم في تلك النقطة تحديدا ، الخلفية البصرية لكل المشاهد تقريبا معبئة بالأسطورية - ربما بدرجة أكبر من كل أفلام فورد الأخري - ، هناك علاقة سببية واضحة هنا بين المكان و آسطورية التكوين ، فورد كان يعشق  وادي الصخورThe Monument Valley سلسلة جبلية في الكولورادو قام بتصوير جُل أفلامه بها ، التميز هنا لا يمكن وصفه بطريقة - مُرضية - بالكلمات ،  في تلك اللقطة علي سبيل المثال - و بالمثل معظم لقطات الفيلم الواسعة المفضلة لفورد - الصورة دائما متعددة الطبقات متباينة في تدرج الألوان ، أمامنا حدث ما في المقدمة .. مجموعة من الرجال تمتطي الخيول تمضي في الأفق ، في الخلف سلسلة صخور جبلية كبيرة الحجم ، خلفها سلسلة أخري أصغر حجما بتدرج لوني أفتح ، خلفها سلسلة أخري أصغر حجما متداخلة مع سحب السماء البيضاء مما جعل ألوانها باهتة تماما ، طبيعة تكوين المكان نفسه عززت أسطورية التكوين البصري للقطة ، هذا التدرج الحجمي و اللوني لتلك الصخور الجبلية يجسد الغموض ، يضع المشاهد في تساؤل دائم عن ماهية الخطر الذي يمكن أن يأتي من خلف تلك الجبال .


من ناحية أخري ، يسبح النص في اتجاه متعدد الطبقات أيضا ، علي السطح - كعادة أفلام الغرب الأمريكي - تبدو القصة بسيطة نسبيا ، محارب سابق - ايثان - قُتل أخوه و زوجة أخوه - مارثا - و اختطفت ابنتهما - ديبي - علي يد قبيلة من الهنود الحمر تدعي - كومانشي - ينطلق في رحلة طويلة الأمد للبحث عن ابنة أخيه المختطفة و الثأر لقتلاه من - سكار - زعيم عصابات الكومانشي ، في العمق تبدو الرحلة داخل إيثان في المقام الأول ، حينما سئل فورد عن الفيلم وصفه بالتحفة النفسية ، النص بالفعل يقدم تشريحا نفسياً لشخصية إيثان ، رجل يبدو في البداية عنصرياً تماماً يكره الهنود كرهاً عارماً - رغم أنه يشبههم تماماً - ، مثال شديد الوضوح لعنجهية الرجل الأبيض ، حتي رحلته الباحثة عن ديبي لم تكن بغرض انقاذها من تلك القبائل المتوحشة بل لقتلها لانها أصبحت فردا منهم ، يصل ذلك للذروة في مشهد قتله الوحشي المستعر لقطيع من الضباع حتي لا يتغذي علي لحمها أفراد الكومانشي ، الرحلة غيرت طبيعة إيثان نفسه ، حررته من عنصريته و خلصته من كرهه، ربما لم تمثل جبال وادي الصخور معابداً للحقائق الأبدية فحسب بل ملجأ لراحة عقل إيثان التائه المعذّب ، عندما وجد ديبي أخيرا لم يستطع قتلها بل لم يستطع سوي أن يحملها عائدا بها إلي الديار .

الأمر لا يتمحور حول إيثان فقط ، فورد هنا يقدم شبكة من العلاقات السيكولوجية شديدة التعقيد ، في تتابعات البداية تُظهر النظرات المتبادلة بين إيثان و مارثا زوجة أخيه أنهما يتبادلان حباً عميقاً ، ربما كان بينهما علاقة عاطفية قديماً بشكل او بآخر ، ربما سببت هذه العلاقة شعوراً بالذنب داخل إيثان تجاه أخيه ، ربما كان هذا الشعور هو ما جعل إيثان ينعزل تماماً عن عائلته لسنوات طويلة ، في المقابل لدينا شخصيتان يمثلان انعكاساً لأكثر الهواجس النفسية لإيثان ، الأول - موس هاربر - عجوز فقد عقله تماماً - او هكذا يبدو - لديه أمنية وحيدة يرغب في تحقيقها .. كرسي خشبي هزّاز بجوار نار المدفئة ، الأمر يحمل رمزية للديار بما فيها من دفئ و سكون و حميمية ، مشاهد موس هاربر علي الكرسي الهزاز تتقاطع دائماً مع مشاهد رحلة إيثان الهائمة ، أما الثاني - مارتن باولي - شاب تبنته عائلة ديبي في صغره ، كان لإيثان الفضل في انقاذه من القتل كما امه علي أيدي عصابات الكومانشي ، كان دائم الخلاف مع إيثان حول نظرته الشديدة العنف و العنصرية ، الحقيقة أن ايثان كان في البداية يحمل بداخله كرها بدرجة ما لبولي كونه ليس أبيضاً خالصاً ، و الحقيقة أيضاً ان الجميع يحملون قدرا متفاوتا من الكراهية تجاه الهنود بما فيهم بولي نفسه ، لكنه علي جانب آخر يجسد هاجس إيثان الآخر المرتبط بالكره و الرغبة في القتل كما لو كان الصخرة التي تتكسر عليها دائما رغبات إيثان الوحشية و تعيده إلي رشده ، ألمعية فورد هنا تكمن في هذا الكم من الافتراضات غير المعلنة ، هذا الكم من الأسئلة - المبنية بالكامل علي نظرات الأعين - التي تبقي بلا إجابة واضحة ، اعتقادي أن " الباحثون " يمكن اعتباره فيلم عن الغرب الأمريكي علي مستوي الشكل فقط ، أما مضمونه ينأي بنفسه عن بساطة الفكرة المعهودة في أفلام الغرب الامريكي و يتخذ لنفسه بعدا نفسياً أكثر عمقا .
  
هناك تيمة بصرية متكررة في المشهدين الافتتاحي و الختامي للفيلم ، في المشهد الافتتاحي مارثا تخرج في استقبال إيثان من - ظلام - المنزل إلي ضوء الخارج ، يتكرر نفس الأمر في المشهد الختامي حيث عودة ديبي إلي - ظلام - المنزل مرة أخري ، التساؤل هنا .. لماذا ربط فورد بين المنزل و الظلام ؟؟ ربما يعبر الظلام عن ما يقبع في أعماق البشر ، عن أسرارهم ، ربما عن لاوعيهم ، عن أكثر نقطة إظلاماً في دواخلهم ، يرتبط هذا بشكل كبير بالديار التي تخفي خلف أبوابها كل ذلك ، ربما عبر الظلام عن السكون و الأمان المرتبطان بالمنزل في مواجهة الأخطار الخارجية ، ربما لم يرد فورد - كما العادة هنا - إجابة قاطعة لهذا التساؤل ، يقودنا كل ذلك إلي تساؤل فورد الختامي ، لماذا استدار إيثان و رحل ؟؟ ، مفهوم انه لم ينتمي يوماً لهذه الحياة رغم توقه لها ، و لكن أليست تلك فرصة - ربما أخيرة - من القدر ؟؟ .. متعة "الباحثون" في أن تظل تلك الأسئلة بلا إجابة ليبقي المشاهد باحثاً - في داخله - عن إجابة مرضية لها علي مر السنين .


0 التعليقات :

إرسال تعليق

Flag Counter