كتب : محمود عياد
التقييم : 5/5
بطولة : جون واين ، جيفري هنتر ، نتالي وود
إخراج : جون فورد (1956)
هذا الفيلم هو عمل جون فورد الأكثر
كمالاً ، من الممكن قول ذلك بكل أريحية رغم غزارة فيلموجرافيا الرجل و تنوعها ، الصعوبة
في هذا الوصف تكمن في الحديث عن أسبابه ، قد يُجمع الكثيرين علي تفرد " الباحثون
" علي عديد المستويات ، و لكن إذا ما سئلوا عن أسباب ذلك التفرد لن تجد إجابةً
شافية ، ربما لأن الاجابات كلها ستتمحور حول جون فورد نفسه ، حول أسلوبه
السهل الممتنع الذي يظهر بساطة ما علي السطح و لكن في العمق يٌظهر صعوبة أكبر بكثير
مما يبدو ، حول شخصيته الثابتة المستقرة الأركان التي يمكن ان تشعر بها بمنتهي السهولة
في كل أفلامه تقريبا ، و بالتالي يبدو الأمر الأكثر صعوبة هنا في إجابة سؤال ملح هو
"لماذا "الباحثون" بالذات ؟؟ بمعزل عن اجابة سؤال آخر
هو "لماذا جون فورد " بالذات ؟؟ .
أعتقد أن الاجابة مرتبطة
بطريقة ما بالأسطورية المسيطرة تماما علي الأجواء ، افلام الغرب الأمريكي عموما تتميز
باللمسة الأسطورية في تسلسل أحداثها و تكويناتها البصرية بدرجات مختلفة ، ربما مثّل
الفيلم قمة الهرم في تلك النقطة تحديدا ، الخلفية البصرية لكل المشاهد تقريبا معبئة
بالأسطورية - ربما بدرجة أكبر من كل أفلام فورد الأخري - ، هناك علاقة سببية واضحة هنا بين المكان و آسطورية
التكوين ، فورد كان يعشق وادي الصخورThe Monument Valley سلسلة جبلية في الكولورادو قام بتصوير جُل أفلامه بها ، التميز هنا لا
يمكن وصفه بطريقة - مُرضية - بالكلمات ، في
تلك اللقطة علي سبيل المثال - و بالمثل معظم لقطات الفيلم الواسعة المفضلة لفورد - الصورة
دائما متعددة الطبقات متباينة في تدرج الألوان ، أمامنا حدث ما في المقدمة .. مجموعة
من الرجال تمتطي الخيول تمضي في الأفق ، في الخلف سلسلة صخور جبلية كبيرة الحجم ، خلفها
سلسلة أخري أصغر حجما بتدرج لوني أفتح ، خلفها سلسلة أخري أصغر حجما متداخلة مع سحب
السماء البيضاء مما جعل ألوانها باهتة تماما ، طبيعة تكوين المكان نفسه عززت أسطورية
التكوين البصري للقطة ، هذا التدرج الحجمي و اللوني لتلك الصخور الجبلية يجسد الغموض
، يضع المشاهد في تساؤل دائم عن ماهية الخطر الذي يمكن أن يأتي من خلف تلك الجبال .
من ناحية أخري ، يسبح
النص في اتجاه متعدد الطبقات أيضا ، علي السطح - كعادة أفلام الغرب الأمريكي - تبدو
القصة بسيطة نسبيا ، محارب سابق - ايثان - قُتل أخوه و زوجة أخوه - مارثا - و اختطفت ابنتهما
- ديبي - علي يد قبيلة من الهنود الحمر تدعي - كومانشي - ينطلق في
رحلة طويلة الأمد للبحث عن ابنة أخيه المختطفة و الثأر لقتلاه من - سكار - زعيم عصابات
الكومانشي ، في العمق تبدو الرحلة داخل إيثان في المقام الأول ، حينما سئل فورد عن الفيلم وصفه بالتحفة
النفسية ، النص بالفعل يقدم تشريحا نفسياً لشخصية إيثان ، رجل يبدو في البداية
عنصرياً تماماً يكره الهنود كرهاً عارماً - رغم أنه يشبههم تماماً - ، مثال شديد الوضوح
لعنجهية الرجل الأبيض ، حتي رحلته الباحثة عن ديبي لم تكن بغرض انقاذها
من تلك القبائل المتوحشة بل لقتلها لانها أصبحت فردا منهم ، يصل ذلك للذروة في مشهد
قتله الوحشي المستعر لقطيع من الضباع حتي لا يتغذي علي لحمها أفراد الكومانشي ، الرحلة
غيرت طبيعة إيثان نفسه ، حررته من عنصريته و خلصته من كرهه، ربما لم تمثل جبال
وادي الصخور معابداً للحقائق الأبدية فحسب بل ملجأ لراحة عقل إيثان التائه المعذّب
، عندما وجد ديبي أخيرا لم يستطع قتلها بل لم يستطع سوي أن يحملها عائدا بها إلي الديار .
الأمر لا يتمحور حول إيثان
فقط ، فورد هنا يقدم شبكة من العلاقات السيكولوجية شديدة التعقيد ، في
تتابعات البداية تُظهر النظرات المتبادلة بين إيثان و مارثا زوجة أخيه
أنهما يتبادلان حباً عميقاً ، ربما كان بينهما علاقة عاطفية قديماً بشكل او بآخر ،
ربما سببت هذه العلاقة شعوراً بالذنب داخل إيثان تجاه أخيه ، ربما كان هذا الشعور هو ما جعل إيثان ينعزل تماماً
عن عائلته لسنوات طويلة ، في المقابل لدينا شخصيتان يمثلان انعكاساً لأكثر الهواجس
النفسية لإيثان ، الأول - موس هاربر - عجوز فقد عقله تماماً - او هكذا يبدو - لديه أمنية وحيدة
يرغب في تحقيقها .. كرسي خشبي هزّاز بجوار نار المدفئة ، الأمر يحمل رمزية للديار بما
فيها من دفئ و سكون و حميمية ، مشاهد موس هاربر علي الكرسي الهزاز تتقاطع دائماً مع مشاهد رحلة إيثان الهائمة
، أما الثاني - مارتن باولي - شاب تبنته عائلة ديبي في صغره ، كان لإيثان الفضل في
انقاذه من القتل كما امه علي أيدي عصابات الكومانشي ، كان دائم الخلاف مع إيثان حول
نظرته الشديدة العنف و العنصرية ، الحقيقة أن ايثان كان في البداية
يحمل بداخله كرها بدرجة ما لبولي كونه ليس أبيضاً خالصاً ، و الحقيقة أيضاً ان الجميع يحملون
قدرا متفاوتا من الكراهية تجاه الهنود بما فيهم بولي نفسه ، لكنه علي
جانب آخر يجسد هاجس إيثان الآخر المرتبط بالكره و الرغبة في القتل كما لو كان الصخرة
التي تتكسر عليها دائما رغبات إيثان الوحشية و تعيده إلي رشده ، ألمعية فورد هنا تكمن
في هذا الكم من الافتراضات غير المعلنة ، هذا الكم من الأسئلة - المبنية بالكامل علي
نظرات الأعين - التي تبقي بلا إجابة واضحة ، اعتقادي أن " الباحثون "
يمكن اعتباره فيلم عن الغرب الأمريكي علي مستوي الشكل فقط ، أما مضمونه ينأي بنفسه
عن بساطة الفكرة المعهودة في أفلام الغرب الامريكي و يتخذ لنفسه بعدا نفسياً أكثر عمقا .
هناك تيمة بصرية متكررة
في المشهدين الافتتاحي و الختامي للفيلم ، في المشهد الافتتاحي مارثا تخرج في
استقبال إيثان من - ظلام - المنزل إلي ضوء الخارج ، يتكرر نفس الأمر في المشهد الختامي
حيث عودة ديبي إلي - ظلام - المنزل مرة أخري ، التساؤل هنا .. لماذا ربط
فورد بين المنزل و الظلام ؟؟ ربما يعبر الظلام عن ما يقبع في أعماق
البشر ، عن أسرارهم ، ربما عن لاوعيهم ، عن أكثر نقطة إظلاماً في دواخلهم ، يرتبط هذا
بشكل كبير بالديار التي تخفي خلف أبوابها كل ذلك ، ربما عبر الظلام عن السكون و الأمان
المرتبطان بالمنزل في مواجهة الأخطار الخارجية ، ربما لم يرد فورد - كما العادة
هنا - إجابة قاطعة لهذا التساؤل ، يقودنا كل ذلك إلي تساؤل فورد الختامي ،
لماذا استدار إيثان و رحل ؟؟ ، مفهوم انه لم ينتمي يوماً لهذه الحياة رغم توقه
لها ، و لكن أليست تلك فرصة - ربما أخيرة - من القدر ؟؟ .. متعة "الباحثون"
في أن تظل تلك الأسئلة بلا إجابة ليبقي المشاهد باحثاً - في داخله - عن إجابة مرضية
لها علي مر السنين .
0 التعليقات :
إرسال تعليق