السبت، 2 مايو 2015

Spring in a Small Town

كتب : عماد العذري

التقييم : 5/5

بطولة : تشاو مينغ تسوي ، وي لي
إخراج : مو فاي (1948)

حقق الصيني مو فاي – أحد أهم أسماء الجيل الثاني في السينما الصينية – عمله السينمائي السابع بعدما وضعت الحرب أوزارها. كان مثل حقبته ، أشبه بمرحلةٍ إنتقاليةٍ بين صين الإحتلال الياباني ، وصين الثورة الشيوعية. بعد عامٍ واحد من إطلاقه كان قد تعرّض لكمٍ من التشويه والإضطهاد والتجاهل من قبل القوة الحمراء الصاعدة التي كانت تُعاقبه على أفكاره اليمينية المحافظة. سرعان ما أصبح الفيلم شيئاً من الذكرى ، كحال مخرجه تماماً .

بعد فيلمٍ ثامن انتقل مو فاي إلى هونغ كونغ هرباً من الصين الجديدة. عاش هناك ثلاثة أعوامٍ قبل أن يرحل في الخامسة والأربعين من عمره. أكثر من ثلاثة عقودٍ مضت قبل أن يزيل مجموعةٌ من طلاب السينما الشباب ومخرجيها الصاعدين الغبار عن هذه الكلاسيكية. درسوها وتعلموا منها وآمنوا ربما بأن بلادهم كانت قد قدّمت سينما عظيمة ذات يوم. نفضوا الغبار عن الفيلم وقاموا بعرضه للجمهور. أعادوه للحياة من جديد. أولئك الشباب شكّلوا لاحقاً ما عرف بالجيل الخامس – الأعظم والأكثر تأثيراً – في السينما الصينية .

مو فاي يعرضُ علينا حكاية وي وي ، إمرأةٌ ثلاثينية متزوجةٌ من مالك أراضٍ شاب ، تُقيم معه رفقة شقيقته الصغرى في بلدةٍ صينيةٍ صغيرة. زوجها يعاني إكتئاباً حاداً وربما مرضاً عضوياً غير ظاهر يُعتقد أنه السل. بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية يزورهم صديقه الطبيب الذي تكتشف بمقدمه أنه جارها وحبيبها القديم. ووسط حالة المعاناة التي تعيشها ، تعود علاقة الحب القديمة لتُزهر في هذا الربيع العابر .

كتب لي فيانجي هذا النص اقتباساً عن قصته القصيرة. قصته ذاتها تبدو مزيجاً غير أصيل من كل عملٍ أدبيٍ تناول مثلث الحب ، والأصالة هي ليست الشيء الذي يراهن عليه هذا العمل. رهانه الحقيقي يكمن في قدرته من خلال مثلث الحب الذي يتناوله على إعادة توصيف المزاج السياسي والإجتماعي الذي يسيطر على العملاق الأصفر الخارج للتو من أعنف الحروب البشرية ، وهو ينتج شيئاً عظيماً في مسعاه ذاك .

في الظاهر تبدو تعقيدات مثلث الحب التي يقدمها كلاسيكيةً جداً سواءً على مستوى الشكل الظاهري أو حتى المضمون الظاهري. لدينا هنا إمرأةٌ تسرد علينا من خلال صوت الراوي معاناتها مع روتين حياةٍ وجدت نفسها تعيشها. حياةٌ لا تكرهها بقدر ما هي لا تحبها. وسط خريفها تعيش ربيعاً عابراً مع حبٍ غير متوقع. تعقيدات الشكل والمضمون وحدها لا يمكن أن نُميّزها مثلاً عن كلاسيكية ديفيد لين Brief Encounter التي سبقتها بثلاثة أعوام. لا أدري إذا ما كان مو فاي قد شاهد فيلم ديفيد لين في حينه ، لكن عظمة هذا النص أنه يستغل ذلك التوليف الذي يقدم مزيجاً من صراع مثلث الحب والمناجاة الداخلية الميلودرامية لإمرأةٍ سحقتها الظروف عاطفياً من أجل أن يذهب أعمق في الخصوصية الزمانية والمكانية للحكاية. ما يجعل فيلم ديفيد لين مختلفاً أنه يحصل على قيمته مهما اختلف زمان ومكان الحكاية ، فيلم مو فاي وثيق الإرتباط بزمانه ومكانه ومن الصعب تقدير ما تقدمه الحكاية كما يجب بصورةٍ منفصلةٍ عن التحولات الإجتماعية السياسية لصين ما بعد الحرب. أجمل ما فيه وهو يفعل ذلك أنه لا ينجرف في المنحى الميلودرامي الظاهر للحكاية ، كان ذلك ليكون بائساً جداً وربما كان ليسلبه قيمة التعاطي مع المعاني المضمنة للشخصيات. معالجة الفيلم لحكايةٍ بمثل هذه الكلاسيكية تقف بشخصياتها على حدٍ فاصل : بين الإرتهان للقديم الموروث والإستسلام له بكل ما فيه من قيود ، أو الإنقياد لهاجس التحرر بكل ما فيه من اندفاعٍ عاطفي. اللقطة التعريفية لكل شخصيةٍ من الشخصيات الأربع تستخدم المجاز لتؤكد هذا المعنى منذ البداية : تسيرُ البطلة وحيدةً بجوار سور البلدة ، نعثر على زوجها وحيداً يجلس في الخرائب ، نلتقي شقيقة الزوج الشابة في لقطاتٍ تفتح فيها باب المنزل وإحدى النوافذ مستبشرةً بيومٍ جديد ، بينما يصل الطبيب حاملاً حقيبته بعد رحلةٍ طويلة - يُعبّر عنها الطريق من خلفه - ليدخل في اللقطة التالية بوابة أملاك الزوج ! بطلة مو فاي - التي يُقدّم فيها استعارةً صريحةً لصين ما بعد الحرب - تقف بين حقبتين / شخصين / واقعين لعالمٍ ينعتق من ارث الحرب. مو فاي وكأنما يستشعر ثورةً قادمةً ، ثورةً ضبابية المستقبل كما هو حال الفرق بين شخصيتي الرجلين من حولها : ليس العمر أو التوقيت أو الرغبة ، وإنما الروح ! حس الإندثار في شخصية الزوج ، ورغبة الإنطلاق والتحرر والأمل التي نراها في عيني الطبيب. إحساسنا بالموت الروحي للزوج لا يتوازى مع تقديم شخصية الطبيب بصورةٍ أفضل ، فقط تبدو الروح هي فرقهما الحقيقي. ذلك الفرق المستتر هو ما تدركه الزوجة وتنجرف معه لحظياً قبل أن يُقيّدها الكثير من الموروث وخوف المغامرة وتأنيب الذات .

طوال ذلك هناك سور البلدة الذي يبدو استعارة مو فاي لسور الصين العظيم ، الشاهد على كل راحلٍ وقادم وحيث يتغير كل شيء لكنه لا يتغير. ذلك السور هو ملجأ وي وي في ساعات وحدتها. يبدو الموروث ثقيل الوطأة على كل رغبةٍ تحرريةٍ لدى بطل مو فاي. حتى حبيبها القديم / الجديد تأخذه إلى هناك. 

يبرع مو فاي في الكثير من المشاهد التي تجمع شخصيات العمل مع بعضها في التأكيد على أفكاره اليمينية. ربما لم تكن وي وي بحاجةٍ لإنقلابٍ جذريٍ في حياتها ، ربما هي بحاجةٍ لكلمة ، لإبتسامة ، لفعلٍ تشاركي ، أو لنزهة ! لا يحاول مو فاي من خلال حكايته أن يقدم مستقبلاً عظيماً لمغامرة وي وي مع حبيبها الطبيب ، بل يصر على التمسك بحس (المغامرة) فيها ، وهو حسٌ سيصطدم لدى المشاهد - لا محالة - مع حياة الوفرة التي تعيشها مع زوجها الآن. معنى يؤكده مو فاي من خلال المشاعر التي تشكلها الشقيقة الصغرى تجاه الطبيب. يبدو التغيير الجذري الذي تُقدمه صورة الطبيب في الحكاية وكأنما له ما يقابله ويليق به : فتاةٌ شابةٌ لم تختبر الحب من قبل ولم تشكل عواطف تجاه أحد ! يُرينا مو فاي في شخصية الشقيقة الصغرى المكافىء الأنثوي الذي يليق بشخصية الطبيب ، المكافىء الذي يروق لشقيقها ، ويقسم زوجته على ذاتها .

وراء ذلك هناك استعارة الربيع ذاته كبيئةٍ زمانيةٍ داخل البيئة الزمانية للحدث ، ربيع ما بعد الحرب. دائماً ما كان الربيع بالرغم من جماله مرحلةً إنتقاليةً بين نقيضين ، وهو في تداخله هنا مع حقبة ما بعد الحرب يخلق معنى مزدوجاً للزمان ، شيءٌ أشبه بنبوءةٍ عن مصير العملاق الأصفر الذي يسير في درب جاره السوفييتي الذي يقوده الحمر منذ ثلاثة عقود. مو فاي يتجاوز من خلال حكايته ما يمكن أن تقدمه لنا سطورها المجردة عن مثلث حب وإمرأةٍ سحقتها العاطفة. ما بين السطور بليغٌ جداً لأن أحاسيس شخصياته تجاه بعضها ظاهرٌ جداً ! لا وجود هنا لشخصياتٍ سلبية ، ومع ذلك هو قادرٌ على توليد الصراع بين السطور مستغلاً عواطف الشخصيات وتفاعلها (الظاهر والباطن) مع تلك العواطف. وفي هذا الموزاييك لا نحتاج للكثير من الحفر أو الكثير من الحوار لنستشف ما تحمله الشخصيات الأربع لبعضها. 

لستُ على ثقة أن مو فاي شاهد الكثير من الأعمال السينمائية خلال تلك الحقبة من تاريخ الصين ، لكن لغته الإخراجية فيها الكثير من تدفق كاميرا ميزغوتشي وإطارات أوزو الثابتة ، مع شيءٍ من روح أوفولس و سيرك تُشع داخل كل كادر ، وبالتأكيد بعضٌ من إيقاع ديفيد لين في بداياته حيث تتحرك الأحداث ولا تتسارع. وبقدر ما يبدو من الصعب الرهان على كونه تأثر بأيٍ منهم يبدو حتى الرهان على كونه أثّر في الآخرين صعباً. مع ذلك، يمكن بسهولةٍ أن نربط هذا الفيلم بسلسلةٍ من الأعمال ، تبدأ عند Hiroshima mon amour و Red Desert وتصل إلى In the Mood for Love . علاقته بالمكان على سبيل المثال تبدو على صلةٍ غير مباشرة بسينما تاركوفسكي، ربما لأن تاركوفسكي تأثر بالأساس بميزغوتشي ! مشاهدة السور في هذه الحكاية ، العشب ، والمنزل ، والحديقة الخلفية ، جميعها تستحث حميمية مخرجٍ يستذكر شيئاً من ذاته وماضيه بصورةٍ فيها الكثير من الشعر .

تعرّض مو فاي للإضطهاد بسبب الأفكار اليمينية المحافظة التي رأتها ثورة الحمر في فيلمه. بعد سنواتٍ من اعادة انبعاثه على يدي مخرجي الجيل الخامس كرّم في أكثر من استفتاء كـ (أعظم فيلم في تاريخ السينما الصينية). بعيداً عن اتفاقك مع ذلك أو اختلافك يبقى هذا الفيلم العنوان الأبرز لدى مريدي السينما عندما يرغبون في الذهاب بمشاهداتهم أبعد من حدود مخرجي الجيل الخامس في السينما الصينية .



0 التعليقات :

إرسال تعليق

Flag Counter