كتب : خالد إبراهيم
التقييم : 4.5/5
إخراج : يوناس ميكاس (2000)
"بدون أن ندري يحمل كل منا – في
مكان عميق – بعض صور الجنة ، ربما ليست صور ، ربما هو شعور شديد الغموض .. كنا هنا
على الأرض ، لكن كنا في الجنة ، تلك اللحظات العابرة ، ربما يكون هذا كل ما في الأمر
، انس الأبدية .. تمتع."
حسناً ، هذا هو السبب
الأهم في إصابتي ببعض الحنق أثناء مشاهدة صبا لينكلاتر ، الفيلمان يدركان قيمة اللحظة والزمن ، لكني كنت أطمع
في فيلم لينكلاتر أن يعاودني نفس الشعور الذي بعثه فيلم جوناس ميكاس العظيم.
"البشر ليسوا بريئين أبداً ..
لكن السينما بريئة للغاية."
بدون عناء يمكنك أن تجد
نفسك .. كل من تعرفهم .. داخل الفيلم ، ميكاس ألَّف فيلمه من مادة فيلمية تسجيلية صورها خلال ثلاثين عاماً
، أفلام منزلية ونزهات خارجية ومناسبات قليلة ، في البدء فكر أن يجعل الترتيب الزمني
تصاعدي ، لكنه في النهاية – لحسن الحظ – قرر أن يكون الفيلم – كالحياة – بلا ترتيب
، يخضع فقط لقانون الصدفة ، الأمر الذي أكسب الفيلم حيوية ونضارة ، كما منعه من أن
يصبح مملاً رغم طول مدته ، وطول عنوانه الذي لا يخلو من صدق وسخرية.
"هذا فيلم سياسي."
المخرج ليس بطلاً الفيلم
، إنما التفاصيل والأحداث الصغيرة ، الأمر الذي يجعل الفيلم عنا جميعاً ، وليس عنه
فقط ، تفاصيل نرى فيها أنفسنا ، لحظات اختبرناها جميعاً ، لحظات أخرى تنتظرنا ، التفاصيل
المتعلقة بالشخصيات قد لا تحمل الكثير من أوجه الارتباط البشري ، بينا التفاصيل المتعلقة
بالحياة نفسها تحمل الكثير من الذكرى ، مثل حذاء ملقى بإهمال على رمال شاطئ ، القطط
التي يقتنيها المخرج ، عملية ولادة طفله ، العصافير ، أول خطوات الأطفال ، لعبهم ،
نموهم ، الاستحمام ، الأصدقاء ، الزوجة.
"لم أتمكن أبداً من معرفة أين
تبدأ حياتي ، أين تنتهي ، لم أتمكن أبداً من فهم أي شيء بخصوص الحياة ، عم تدور؟ ماذا
تعني؟"
من يفهم الحياة ؟ ميكاس يخبرنا دائماً
طوال الفيلم أنه لم يفهم البشر ، وغير راغب في ذلك ، إصراره على تأكيد عدم فهمه للبشر
أو الحياة كان اختياراً شديد الذكاء ، حيث منع الفيلم من أن يصبح فيلماً وعظياً إرشادياً
، فيلماً يخبر فيه الكبير كيف على الصغير أن يحيا ، لا تجعل كلامي يضللك ، الفيلم فعل
ذلك بالفعل ، لكن بطريقة محببة غير مباشرة.
"لا شيء يحدث داخل هذا الفيلم."
الرجل العجوز اللطيف يجلس
بمفرده – في المنزل غالباً – قبيل الألفية الجديدة ، يجمع لقطات الأفلام المنزلية ،
يجمع أصوات شتى قام بتسجيلها ، يدمج الاثنين – حسب زعمه – عشوائياً ، عشوائية الصوت
والصوت أعطت للفيلم طابع الحلم المنشود ، أو ربما اللقطات المتخيلة خلال مرحلة ما قبل
الموت و"الضوء الأبيض في النفق".
"إن لم يحدث شيء فلنكمل ، هكذا
هي الحياة دائماً ، المزيد من نفس الشيء."
الصورة تتدفق بلا انقطاع
، يحاول ميكاس التقاط العفوية بالكاميرا ، دون تدخل منه ، أي تدخل يستطيع
بسهولة تدمير العفوية كما نعرف ، الشيء الآخر الذي يدل على ذكاء شديد – لا يتناسب مع
ما قد يتبادر إلى الذهن بشأن طيبة الرجل الشديدة المغرقة للفيلم – كان عدم تنازل المخرج
عن التلميح والتصريح بالطبيعة الهاوية للفيلم.
"أنا في كل صورة وإطار ، عليك
آن تقرا الصور فقط."
صوت وصورة الفيلم كفيلان
بإشعارنا بأننا بصدد عمل هواة ، سعي ميكاس إلى إشراكنا في صنع الفيلم ، يمكننا سماعه يقوم بعمل المونتاج
بينما يتحدث إلينا ، يسخر من نفسه ، من فيلمه ، في نفس الوقت يجعل صورته صورة لكل البشر
، يجعل ذكرياته ذكريات لكل المشاهدين. هل كان يعرف أن خلال سنوات لاحقة سيصبح ما يسجله
فيلماً ؟ لا أعتقد.
"لا أصنع أفلام ، فقط أصور."
عين المهاجر الليتواني
رصدت مدينته نيويورك بامتنان وحب ، ليست نفس المدينة التي رأيناها كثيراً في
الأفلام الأمريكية ، حيث تكون أم للشرور أو الفنون أو التنوع ، مدينة ميكاس عبارة عن
حديقة سنترال بارك ، حيث يأكل حبات العنب ، يحتسي النبيذ من القنينة ،
سوياً مع زوجته ، ولاحقاً أولاده.
"أحسد الآخرين ، لأنهم يبدون في
مركز الجاذبية ، بينما أكون في رحلة دائمة الحنين إلى الراحة."
الفيلم ينظر إلى الجنة
الأرضية ، جنة الأصدقاء والعائلة ، جنة الحب ، حيث كل يوم هو معجزة ، "الجنة تكون في اللحظات
، في الأمسيات ، في الضحكات مع الأصدقاء القدامى" ، عالم ميكاس يبدو بلا
ضغينة أو مشاحنات ، على أي حال لم يكن ليبدو منطقياً أن يقوم بتصوير شجار مع زوجته
، أو خلال أزمة صحية ، الأمر الذي جعل الفيلم يقتصر على لحظات الجمال والسعادة ، لكن
لا يكتفي بذلك ، الحزن والألم يتواجدان ، حزن يختفي خلف الشجن ، وألم غامض ينبع من
الحنين ، حنين المخرج لما كان ، رغم تقبله بما هو كائن ، حنين المشاهد لما كان ، وما
يرجوه أن يكون.
"استمر في البحث عن الأشياء حيث
لا يوجد شيء."
الفيلم عن الأهمية الجمالية
للحظة ، أهمية تتابع اللحظات من اللاشيء ، حيث لا يكون الفيلم عن شيء ، فيصبح عن كل
شيء ، إن لم تكن السعادة والحب ، فماذا يكون ؟ لهذا كان إصرار المخرج على أن فيلمه
فيلماً سياسياً ، أحد النقاد أشار إلى أن الفيلم يشبه التقليب العشوائي خلال مذكرات
قديمة ، حيث تتابع تطور خطك ، نضجك الفكري والشعوري ، تندهش من نفسك ، تسخر ، تشعر
بالإحراج ، تشعر بالحنين ، السعادة ، الراحة ، ترى شخص بعيد لم يعد أنت.
"تسألني عن الجمال ، ماذا أعرف
عن الجمال ! اختبرت بعض لحظات السعادة ، هذا هو الجمال ، الوقوع في الحب جمال."
0 التعليقات :
إرسال تعليق