كتب : محمود عياد
التقييم :5/5
بطولة : إيميل هيرش ، كريستن ستيوارت ، هال هولبروك
إخراج : شون بن (2007)
"الطريقة الوحيدة
للتعامل مع عالم غير حر هي أن تصبح حراً تماماً مما يجعل مجرد وجودك نفسه فعل تمرد"
.. ألبير
كامو .
ربما كان شغفي
بالسينما في المقام الأول و ارتباطي بها وثيق الصلة بتلك النوعية من الأفلام التي
تأسرك منذ بداية البداية ، تتماهي معها و
تفقد السيطرة علي نفسك و تشعر بأنك جزء من الحكاية .. بل أنك انت البطل في الحكاية
.. و لطالما كان مفهومي عن الفيلم العظيم خارج عن كل الأطر و الأعراف التقييمية ،
يتصل دائما بجانب انطباعي شديد التطرف لا يرتبط بأي قواعد ، يسيطر علي كل جوارحي
كليا بلا أي فرصة للفكاك .
هذا الفيلم هو
التطبيق الحرفي لما قلت ، من أجل مثل هذه الأفلام تقع في حب السينما من النظرة
الأولي ، يصيبك داء لا علاج له يسمي الشغف ، تلك الأعمال التي تجمع بين بساطة
الحكاية و وضوح الفكرة و القدرة علي الإمتاع الذهني و البصري في آن واحد ، تلك الأعمال التي تجمع حولها محبي السينما علي
اختلاف مشاربهم و تنوع أذواقهم ، يجتمعون بلا استثناء علي فكرة واحدة لا يمكن
الاختلاف حولها ... من أجل هذا خلقت
السينما .
إلي البرية ...
التجربة الإخراجية الرابعة و الأكثر نضجا للممثل الشهير شون بين ، مقتبس من كتاب
لجون كركاور عن قصة حقيقية لشاب يدعي أليكساندرمكاندليس ، هجر أسرته و تبرع بأموال
دراسته الجامعية ، باع حياته السابقة بالكلية و انطلق في رحلة غير معلومة الهدف و
لا الغاية ، لا نهاية زمنية محددة لها ، رحلة بين الجبال و الوديان و البراري بحثا
عن السعادة المفقودة عن الحكمة عن فهم
أكثر عمقا و إدراكا للحياة ، تيمة أفلام
الطريق ربما تكون المفضلة بالنسبة لي ،
لدي اعتقاد جازم أنها تيمة جاذبة للجميع ، لا يمكن ان تجد شخصا لم يقع في
حب هذه النوعية من الأفلام التي دائما ما تمثل السهل الممتنع ، تتوحد مع أبطالها و
تتمني- متوهما- لو كنت أنت البطل ، يتحول ذلك تلقائيا إلي شعور لا رجعة فيه بالانبهار
، بناء شخصية أليكس يرتبط بالأساس بالظروف
التي نشأ فيها ، أسرة مفككة تماما ، أب و
أم دائمي الخلاف علي مشارف الطلاق دائما ، لم يرتبط بهما يوما و لم يحمل داخله أي
مشاعر نحوهما ، نما بداخله اعتقاد أنه لا ينتمي إليهما و لا إلي العالم الذي
يعيشون فيه ، لديه شعور دائم بالغربة و الرغبة في الرحيل ، يعتبر اللحظة التي قرر
فيها أن يقوم برحلته هي لحظة ميلاده الحقيقية ،
طبيعة شخصية أليكس تختلف تماما عن طبيعة الشخصيات الرئيسية في تجارب شون
بين السابقة كمخرج ، في أفلامه ال 3 الأولي لدينا شخصيات معتلة اجتماعيا ، تحمل
قدرا كبيرا من التعقيد .. جندي عائد من
حرب فيتنام محمل بالأهوال التي رآها .. أب مكلوم علي ابنته المقتولة يسعي للانتقام
.. محقق شرطة - يحاول حل قضيته الأخيرة قبل التقاعد - قضي معظم حياته بلا حياة حقيقية غارقا في فك
ألغاز الجرائم .. لدينا هنا شخصية منفتحة
علي الحياة تماما لا غموض يحيط بها ،
دوافعها واضحة ، كل انفعالاتها
مبررة و مباشرة ، لا تحمل بداخلها أي قدر من التعقيد يكره المال و السلطة و
سيطرتهما الواضحة علي مقدرات البشر و أسلوب حياتهم ، لديه فكرة بسيطة أراد أن
يثبتها - لنفسه أولا - ، أنه يمكنه أن يعيش حياة أكثر سعادة من الحياة التي فرضت
عليه بلا أي شيء لا مال و لا وظيفة و لا مساعدة من أي إنسان .. فقط هو و الطبيعة و
تفاعلهما معاً .
عندما شاهدت الفيلم للمرة الأولي تولد لدي شعورٌما
أن هذه الحكاية لا يجب أن تحكى بل من الأفضل أن تشاهد ، الحكاية نفسها تبدو للوهلة الأولي في غاية
البساطة ، شاب قرر في لحظة ما أن يبيع حياته السابقة بالكامل و ينطلق في رحلة غير
معلومة الهدف ، الأمر يبدو واضحاً تماماً ، الا انه في العمق يظهر النص قدرا
معتبرا من التعقيد .
بناء شخصية أليكس
يتطور في النص علي عدة طبقات،في البداية هو شاب طموح ناقم علي حياته يفتقد إلي
الدفء الأسري علاقته مع أبويه فاترة ، ينطلق في رحلة إلي البرية يلتقي فيها العديد
من البشر يؤثر فيهم تماما و يترك انطباعا لا ينسي و يتعلم منهم كل شيء و ينتهي
الأمر نهاية مأساوية – ميلودرامية قليلا - ،
بداية الرحلة تمثل بداية حياته
الجديدة ، نقطة الانطلاق هي لحظة
الولادة ، يعزز ذلك تماما تقسيم النص إلي عدة فصول تمثل مراحل الحياة - الحقيقية -
لأليكس من الولادة الي النهاية ، يصل ذلك
إلي الذروة في مشهد عودته للمرة الأولي منذ بداية الرحلة لحياة المدينة في زيارته
للمكسيك ، يظهر أليكس هائما في الطرقات ينظر في وجوه البشر و كأنما يري كائنات
غريبة لم يعهدها سابقا ، في لحظة ما يتوقف أمام نافذة زجاجية تطل علي حانة حيث شاب
يرتدي بزة رسمية يقف مع فتاة و يضحك بينما يتناول كأسا من الخمر ، يتأمل أليكس في
وجهه بعمق بينما يتخيل أنه هو هذا الشاب يعيش تلك الحياة البائسة المرتبطة بثنائية
المال و النجاح ، في تلك اللحظة انتهت عملية التغير الجذري في طباع أليكس و شخصيته
،أضحى مقتنعاً تماماً انه اصبح غريباً عن هذه العالم و لا ينتمي إليه بأي حال .
أداء ايميل هيرش لا
يمكن وصفه بالعظمة بقدر ما يتصف بالصدق ، قدم اداءاً حقيقيا للغاية ، يمكن بسهولة
ملاحظة تشبعه التام بشخصية أليكس ،أصبح هو أليكساندر الرحالة الخارق ، ربما
المشاهد التي جمعته بهال هالبروك من أعذب و اصدق ما قدم علي الشاشة ،علي الجانب
الآخر هالبروك يقدم هنا أداءاً استثنائيا – رغم قلة مشاهده – نال عنه ترشيحا
مستحقا تماما لجائزة اوسكار أفضل ممثل مساعد .
يغلف كل شيء إطار
موسيقي غاية في الروعة ، تشعر دائما أنه جزء من الحدث نفسه ، يروي الحكاية بطريقة
ما كما ترويها أخت أليكس ، و إطار بصري فيه مبالغة في اظهار جماليات الصورة ،
تكثيف شديد للمشاهد الطبيعية ، ولّد لدي شعورا ما بأن شون بين يستعرض عضلاته و
يحاول ابراز كل إمكاناته كمخرج ، خرج هذا كله في محاولة مستمرة للإبهار البصري طغت
علي كل مشاهد الفيلم ، ربما سبب لي هذا تشتتاً من نوع ما ، التركيز هنا لابد أن
يكون علي الرحلة نفسها ، علي تفاعلات
البشر مع البطل في رحلته الباحثة - مجازا - عن معني الحياة ، في اعتقادي أن الإبهار البصري المبالغ فيه هنا
لم يكن مطلوبا ، علي الجانب الآخر يبرز الفيلم كإنجاز مونتاجي فخم ، يتجلي هذا
بشكل أكثر وضوحا في مشهد في تتابعات
النهاية يُستخدم فيه توليفا طوليا للقطات
، يتقاطع فيه وجه أليكس الشاحب مع حركات السحب في السماء بشكل متتالي بالتزامن مع
دقات الطبول المتسارعة ، يحاول شون بين هنا الجمع بين روعة تشكيلات الميزانسين و
بين استخدام المونتاج بكثافة ليحقق التوازن المطلوب ، ربما مبالغته في تجميل الأمر
حادت بالمنتج النهائي عن ملامسة الكمال .
هذا الفيلم يمثلني ،
هذه حياتي التي حلمت بها بما يوما تتوالي
أمامي في شريط سينمائي مدته ساعتين و نصف ،هذه أقصي أحلامي تطرفا و أكثرها رغبة
أراها مجسدة أمام عيني ، أنا أليكساندرماكندليس و هذه الحياة التي أتمناها ، أن
أحيا بلا قلق بلا ترقب للمستقبل و خوف مما قد يحمله بلا بحث لا يتوقف – يتآكلني
شخصياً – عن المال بلا هدف بلا قيود ، مسافرا بلا وجهة ، راحلا بلا غاية ، هائماً
.. في البريّة .
0 التعليقات :
إرسال تعليق