كتب : أحمد أبو السعود
التقييم : 4.5/5
بطولة : ليزبيت موفن ، توركيلد روس
إخراج : كارل تيودور دراير (1943)
هذا فيلم مُربك ، و في إرباكه هذا روحانية يسعى إلى تحقيقها ، لا يُخبرك الحقيقة و لا يُخفيها عنك أيضاً ، يترك لك المساحة كي تتأمل و تُفكر و تُقرر .
يتبنى الفيلم طوال أحداثه ثنائية متناقضة المعنى : اليقين/الشك ، هما فى الحقيقة وجهان لعملة واحدة ، العجوز المُتهمة بالسحر لا تُنكر الإتهام و لا تُثبته أيضاً ، ربما لأنها تعرف إن إنكارها لن يُفيد و أن التعذيب سيجبرها في النهاية أن تعترف ، لكنها لا تستسلم ، تُهدد القس "أبسالون" بفضح سر من شأنه أن يُعرّضه للمُحاكمة ، "أبسالون" لا يستسلم لها ، و لا يُنقذها ، هنا نتسائل : هل كانت تلك العجوز ساحرة أم بريئة ؟ و هل القس كان يحمى نفسه أم يحمى زوجته ؟ ، تستمر تلك الأسئلة في الانسياب من بين جنبات الأحداث ، فنجد "آنا" في النهاية تعترف بأنها كانت تمارس أفعالاً شيطانية ، الأمر الذى يدفعنا أن نسأل ثانية هل فعلت ذلك إقراراً بالحقيقة أم يأساً في النجاة بحياتها من المصير المُظلم الذى لاح لها في الأفق ؟
براعة الفيلم أنه يستخدم الصدف كوسيلة لزرع مزيد من الأسئلة و إثارة جدلية الثنائية
التي تحدثت عنها ، العجوز قبل أن تُحرَق تهدد أحد رجال الدين بأنها ستطارده بعد
موتها حتى تقتله ، في اليوم التالي يموت ذلك القس مؤمناً بأن العجوز هي السبب فى
موته ، "آنا" عندما تعترف لأبسالون بأنها و ابنه على علاقة غرامية يقع
على الأرض صريعاً ، الصدف هنا تلعب دور القدر ؛ دور السماء فى توجيه مصائر البشر ،
و ربما كانت تلك المسألة محل نقاش أيضاً ، لكن استخدام الصدف هنا يحمل رمزاً إلى
شىء مجهول ، هذا الشىء المجهول هو ما يساهم في تعزيز قوة تلك الثنائية التي طالما
استهواها الدنماركي الكبير .
الأجواء الدينية التي يتبناها الفيلم منذ البداية يتضح أثرها جيداً في بناءه ؛ سواء في اختيار الفترة التاريخية التي كانت الكنيسة فيها تتحكم بكل قوة و قهر في مصائر الناس ، أو في بناء الشخصيات و تواجدها ضمن محيط مباشر بالكنيسة ، الجريء أكثر أن قصة الفيلم الرئيسية تتمثل في علاقة حب مُحرمة بين إمرأة شابة و بين ابن زوجها القس العجوز ، يُعطى الفيلم لتلك العلاقة المساحة لكى تنمو و تقوى و كي نتفهم نحن دوافعها و ظروفها ، و كما يمنحها لحظات السعادة و المتعة و الحرية يُحيطها بظلال الشك و الكره و التحكم ، سردياً يلجأ الفيلم إلى المونتاج المتوازى كثيراً كي يترجم طبيعة تلك العلاقة ، يوازى الفيلم طوال أحداثه بين حساسية تطور تلك العلاقة و بين مدى تفحل الكنيسة و امتداد سطوتها ، تُحرَق العجوز و تراقبها "آنا" من النافذة و معها ابن زوجها فترتمى في أحضانه في نهاية المشهد ، تختلس "آنا" مع عشيقها لحظات فى حديقة المنزل و يجلس "أبسالون" أمام النار يُراجع مبادئه و ضميره ، هذا الأسلوب كان الأنسب و الأفضل لفيلم مثل هذا لا يقول الحقيقة و لا يُخفيها أيضاً .
في المشهد الذى تجرى فيه العجوز هرباً تظهر أجراس الكنيسة على شريط الصوت ، و ما إن ندخل بيت إبسالون تختفى الأجراس و تظهر دقات الساعة ، و يختفى الاثنان عند لحظة القبض على العجوز ، و يظهر الصليب كثيراً على شريط الصورة مُعلقاً على الحائط أو كظل يصنعه الضوء أو في عمق كادر ما ، دراير يستلهم من بيئة شخصياته مفردات تصنع الأُطر البصرية و الصوتية التى تضع بدورها تلك الشخصيات داخل الرمز المناسب لها ، داخل دائرة الصراع النفسي و الفكري و الروحي الذى تسبح فيه الشخصيات و بالتالي المُشاهدين ، حتى أنه بحركة كاميرته المتأنية و لقطاته الطويلة يُعطى المساحة للمُشاهد أن يتأمل في توزيع الضوء داخل كل كادر ، و من أين يدخل الضوء الكادر ، ذلك التأمل يضعك على أرضية مناسبة كي تستوعب و تستغرق في الصراع الذى يبنيه الفيلم طوال الأحداث .
كان لدراير مشروع - لم يرَ النور - عن المسيح ، المسيح كان متواجداً في كل أفلام دراير ؛معجزاته و تعاليمه و الدروب التي سار عليها و الشك و اليقين الذى أحاط بمُنكريه و بأتباعه ، شخصيات دراير تحمل المسيح بداخلها أو على كاهلها و في النهاية يترك دراير الباب مفتوحاً للتأويل و التفسير و بالطبع لإثارة الجدل .
0 التعليقات :
إرسال تعليق