كتب :
محمود عياد
التقييم : 4.5/5
بطولة : غاري بوند ، دونالد بليزنس
إخراج : تيد كوتشيف (1971)
في بدايات السبعينيات
من القرن الماضي ظهرت مجموعة من المخرجين صغار السن مدعومين من الحكومة الأسترالية
و ممولين بالكامل منها قدمت العديد من الأفلام علي مدار ١٥ عاما حتي منتصف الثمانينيّات
كلها تقريباً مرتبطة بالثقافة المحلية للمجتمع الأسترالي و ربط سلوكيات البشر بالأرض
الجديدة المكتشفة حديثاً في هذا الجانب البعيد من العالم أفلام لمخرجين أمثال بيتر
وير و نيكولاس ريج و جورج
ميلر ممن يظهر جلياً في أعمالهم التأثر بطبيعة الارض و طبيعة الشخصية الأسترالية
, الاغراق الشديد في المحلية و الدراسة الوافية لكل ما يتعلق بالمجتمع الأسترالي في
ما اصطلح على تسميته بالموجة الأسترالية الحديثة في السينما و كان هذا الفيلم من أوائل
أفلام الموجة و أكثرها تأثيراً في مخرجيها أنفسهم ، يقول مثلاً بيتر وير إنَّه
تاثر بشدة بهذا العمل قبل ان ينتج اول افلامه بل ذهب احدهم الي اعتباره أفضل فيلم استرالي
علي الإطلاق ، المفارقة هنا ان صناع الفيلم الرئيسيين ليسوا أستراليين على الإطلاق
و لم يعيشوا يوماً بها و المثير ان هؤلاء - الغرباء - أنتجوا فيلماً استرالياً خالصاً .
يبدأ الفيلم - و ينتهي
ايضاً - بمشهد لاندسكيب واسع لمدينة تيبوندا ، ارض شاسعة صحراوية ممتدة بها نقص شديد في البشر يظهر
في المشهد منزل واحد صغير يستخدم كفصل دراسي و في مقابله فندق متواضع من طابق واحد
و شريط للسكة الحديدية و لا شيء آخر سوى الارض الشاسعة الممتدة في إشارة رمزية واضحة
علي الفراغ الشاسع و البعد الشديد لهذه المنطقة من العالم عن باقي العالم فقر مدقع
في البشر خلو من الحياة او ما يشبه الحياة عزلة كاملة تعيشها هذه الدولة او القارة
الحديثة ، هذه الرسالة الرمزية كانت واضحة جداً - ليس في المشهد الافتتاحي و الختامي
فحسب - و إنما في كل مشاهد الفيلم التي غلب عليها اللون الأصفر الساطع لون الطبيعة
الصحراوية للأرض و الشمس الحارقة و الفراغ الشاسع .
في خلال ذلك يحكي لنا
الفيلم قصة جون جرانت شاب يعمل مدرساً في مدينة تيبوندا المعزولة يكره
هذا العمل و يعتبره نوع من العبودية للحكومة التي فرضت عليه و على امثاله ممن يمتهنون
نفس المهنة استقطاع جزء من راتبهم الشهري و العمل في اي مكان تفرضه عليهم كنوع من رد
المبالغ التي أنفقتها في تدريبهم و تجهيزهم .
ينتهي العام الدراسي و
يفترض بجرانت ان يغادر في اجازة لـ 6 أسابيع للعاصمة ليقضي إجازته مع
صديقته روبن ، و في طريقه الى سيدني يضطر لقضاء ليلة في مدينة – بوندانيابا - او
كما يطلق عليها سكانها يابا اختصاراً ، ليمر بسلسلة من الأحداث الغارقة في اجواء كابوسية
مقبضة شديدة السودوية و العنف ، شخصية جرانت مرت بمراحل عدة ، مبدئياً هو شخصية غريبة
علي هذا المجتمع لديه شعور واضح بالاختلاف و العلو هو لا ينتمي لهؤلاء البشر و لا يعيش
مثلهم ، يعمل في وظيفة لا يحبها ، حلمه الأكبر هو ان يغادر هذا البلد الي إنجلترا ليعمل
صحفياً ، هناك شعور واضح بالاحتقار لهؤلاء الناس و طريقة حياتهم و اُسلوب تفكيرهم ،
كل هذا يتغير تماماً عندما يقضي مع هؤلاء الناس بضعة ايام في هذه المدينة الصغيرة
– يابا - و يشاركهم حياتهم - قسراً - يضطر مرغماً تحت تأثير كرم ضيافتهم
البالغ ان ينجرف الى حياتهم البربرية الخالية من اي تحضر و يصبح واحداً منهم ، يدخل
في صراع نفسي بين افعاله و عقله الرافض لكل ما يفعله ، حالة كابوسية كاملة في تصوير
هذا الصراع النفسي و استخدام ممتاز للمونتاج في القطع السريع للقطات المتتابعة في تصوير
هذه الحالة الكابوسية .
الفيلم لم يظهر به سوي
أنثى واحدة جانيت هاينز - و هي زوجة تود كوتشيف بالمناسبة - بخلاف صديقة جرانت روبن - نانسي
نادسن - التي ظهرت في مشهد واحد فقط كأحد احلام يقظته و كان هذا مقصوداً بشكل ضمني
ايضا للترميز عن عدم التناسب الواضح بين الذكور و الإناث في المجتمع الأسترالي و عن
هذا يحكي تيد نفسه في احدى مقابلاته عن موقف تعرض له هو شخصياً في زيارته
الأولى لأستراليا لدراسة طبيعة هؤلاء البشر قبل تصوير الفيلم انه هو نفسه دخل احد الحانات
و كان مظهره يوحي بانه غريب بشاربه الطويل و شعره الكثيف فاصطدم به احد رواد الحانة
و طلب منه ان يقاتله و اصر علي ذلك و تكرر هذا الموقف معه اكثر من مرة و كان قد لاحظ
خلو الحانات تماماً من اي امرأة و بالسؤال عن ذلك اكتشف ان هناك نوع من انواع الفصل
بين الذكور و الإناث هناك و لا يسمح للإناث بدخول الحانات و الاختلاط بالرجال ، هم
نادرا ما يغادرون المنزل علي أية حال - مما تسبب في ارتفاع نسب الانتحار بين الإناث
في هذه الفترة - فتوصل الى ان الرجال في هذه البيئة الصحراوية الفقيرة نسائياً - بشكل
عددي و اجتماعي على حد سواء - يفتقرون الى هذه اللمسة النسوية مما اثر بشكل واضح علي
شخصياتهم التي تميل للعنف ، هم يعوضون هذه اللمسة المفقودة بالرغبة في القتال علي الأقل
يعطيهم هَذا اللمسة البشرية علي أية حال
.
مشهد القتل الجماعي لحيوانات
الكانجارو من اكثر المشاهد المقبضة التي يمكن ان تشاهدها في حياتك عن بربرية الانسان
الأبيض و وحشيته في التعامل مع الطبيعة , قهره لكائنات اخرى لا ذنب لها لمجرد متعة
شخصية تافهة ، مشهد يذكرك بكل التاريخ الوحشي للمجتمعات الجديدة الناشئة في ارض جديدة
, هم يقتلون الكانجرو كما قتل الهنود الحمر في أمريكا في مذابح جماعية ، هنا الإشارة
واضحة و مباشرة بشكل يثير النفس و ليست ضمنية كغيرها من الإشارات الأخرى لطبيعة من
يعيشون في هذه البقعة المعزولة من العالم .
هنا ايضا يحكي كوتشيف
عن كم المعاناة التي مر بها في تصوير مشهد القتال بين جو و الكانجرو , المعاناة هنا
كلها كانت في كيفية تطويع هذا الكائن الذي يعد من اكثر الكائنات المسالمة و البعيدة
عن العنف في العالم في ان يصبح عنيفاً و يقاتل ، يحكي كوتشيف انه عانى كثيراً في تصوير
هذا المشهد و استمر لـ 3 ايام يحاول بكل الطرق بِلا فائدة ان يستحث 8 من حيوانات الكانجرو
على القتال بلا أي استجابة تذكر حتي طلب من المنتج المنفذ ان يعيدها جميعاً و يأتي
لَه بآخر اكثر عنفاً فآتي له بكانجرو بعين واحدة فقدها برصاصة أحد القناصة طوله 8 اقدام
بداخله كره شديد لكل ما هو بشري و رغبة في الانتقام مما حدث له و تم تنفيذ المشهد في
3 ساعات فَقَط و كان حقيقياً بالكامل
.
لم يحظَ الفيلم باستقبال
جماهيري أو نقدي جيد عند عرضه في أوائل السبعينيات بل ان كثيرين اعتبروه مبالغاً بشدة
في تصوير الحياة الأسترالية بهذا الشكل السوداوي المقبض رغم ذلك حظي بتقييمات نقدية
ممتازة عند عرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في نفس العام ثم حدثت كارثة للفيلم
بعد ذلك تتمثل في اختفاء كل النسخ الخاصة به و فقد تماماً علي مدار 4 عقود من الزمن
الى ان وجدت نسخة كاملة للفيلم بالصدفة البحتة تم ترميمها عن طريق مؤسسة سكورسيزي و عرض
الفيلم كاملاً بنسخته الجديدة الكاملة للمرة الثانية في مهرجان كان و المفارقة
ان سكورسيزي نفسه كان هو رئيس المهرجان في نسخته تلك و عرض الفيلم
كأول فيلم يعرض مرتين في المهرجان على مر العصور .
هنا لا بد ان تذكر حكاية
يرويها كوتشيف نفسه انه كان جالساً في أحّد الصفوف الأمامية المخصصة للمخرجين
اثناء عرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان كان ، يقول انه اثناء مشاهدته للفيلم كان هناك صوت لشاب
صغير السن من الفنانين المتحدين يجلس خلفه مباشرة يحدث ضوضاء بصوت عالي أزعجه ، الشاب
لم يكن يقول كلاماً سيئاً على الإطلاق بل كان يبدي اعجابه بالفيلم و لم يستطع ان يكتم
شعوره بداخله ، بعد نهاية العرض ذهب كوتشيف إلى احد أصدقائه و سأله من هذا الشاب فنظر وراؤه و لم يجده
ثم رَآه يقف بعيداً فأشار اليه و قال لصديقه انه هو الشاب الذي حدثه عنه ، لم يكن هذا
الشاب سوى سكورسيزي نفسه في بداية حياته و لم يكن قد صنع سوى فيلمٍ واحد
، و عندما قال له صديقه انه مارتن سكورسيزي رد عليه قائلاً لم اسمع به يوماً ، و بعد 40 عاماً يعيد
سكورسيزي نفسه لكوتشيف تحفته المفقودة على مدار 4 عقود .. سكورسيزي العظيم .
غالبا ما يكون لكل أمة
رجالها ممن يحملون علي أكتافهم مهمة صنع تاريخ حضاري لها يذكرها به باقي الأمم .. هذا
دائماً ما ارتبط بدرجة ما – كبيرة – بالفن
بكافة صوره .. المرئية منها بالأساس .. السينما على وجه خصوص .. ربما مثل كوتشيف و رفاقه
هذه الأكتاف لتلك الأمة الباحثة عن هوية ما في آخر العالم .
0 التعليقات :
إرسال تعليق