كتب : أحمد أبو السعود
التقييم : 5/5
بطولة : كيفن سبيسي ، آنيت بينينغ
إخراج : سام مينديز (1999)
من بعيد يبدو أفيش الفيلم كأنه كرت تذكاري أنيق لكنه يُجبرك على إمعان النظر فيه و مع فعل ذلك ستكتشف أن هناك جمال كامن وراء الصورة البعيدة التى انطبعت في الذهن من النظرة الأولى ؛ جمال يسمح لحواسك إطلاق عنانها لاستكشاف روح مختلفة و أكثر عمقاً عما هو ظاهر و مُتحقق أمامك ، حسناً ، الجملة الأخيرة ربما كانت توصيفاً أكثر دقة للفيلم نفسه و ليست للأفيش بصفة خاصة ! .
يبدأ الفيلم بمشهد مُصور بكاميرا فيديو لمُراهقة تتذمر من أبيها و تتمنى لو أن
أحداً يُنهى حياته ، ثم تنتقل بنا كاميرا السينما من السماء إلى حي صغير يتحدث فيه
البطل عن حياته و حياة أسرته الصغيرة ، يصدمنا صوت الراوي / البطل على نحو فعال و هادئ
و ربما منطقي أيضاً أنه في أقل من عام من الآن سيكون ميتاً ، هناك تناقض واضح بين
تقشف صورة الفيديو و جودة الصورة السينمائية ، تناقض يدفعك طوال الأحداث إلى
المقارنة و محاولة تفسير حقيقة و صدق ما تراه أمامك سواء مشاهد الفيديو أو المشاهد
السينمائية ، منطق الأفيش إذن يُترجم نفسه طوال أحداث الفيلم ، تلك الصورة
الثنائية بين ما هو ظاهر و ما هو مُتحقق بالفعل ، ثنائية تكتنف بداخلها تفاصيل
كثيرة تختزل قيم كالجمال و الحب و الحرية داخل واقع قبيح و مُشتت .
يقول سام مينديز عن سيناريو الفيلم عندما قرأه أنه بدى له مختلفاً مع كل قراءة أخرى له و أنه قصة غامضة و رحلة متشابكة في الضواحي الأمريكية ، يُعطينا النص دائماً ذلك الإيحاء بوجود مستوى آخر للتلقي غير الظاهر أمامنا رغم بساطة الحدوتة و كلاسيكية البناء الدرامي في النهاية ، فلننظر إلى شخصيات الفيلم إذن ؛ ليستر زوج و أب فقد إحساسه بالحياة و حماسه الفطري لها بعد الزواج و الإنجاب ، يعيش في الظاهر حياة هادئة و مستقرة لا شجار فيها و لا مفاجآت حزينة تحدث و لكن لا جديد يحدث أيضاً ، ليستر هنا يتصدر المشهد ، هو الراوي و هو المُعلق و الشاهد على كل ما يحدث ، تدب الحياة فيه فجأة عندما تقع عيناه على صديقة ابنته المُثيرة جنسياً ، يبدأ هو في تغيير نمط حياته و استكشاف الحياة التي يستطيع أن يستنطقها من بين تراكمات الزمن المملة بداخله ، يساعده في ذلك التغيير جاره الشاب الذي انتقل لتوه مع أبيه و أمه إلى الحي بجوار ليستر و عائلته ، صحيح أننا منذ اللحظات الأولى و نحن نستشعر بعدم راحة في طبيعة العلاقات التي تتشكل أمامنا لكن كان وصول تلك العائلة إلى الحى هي بمثابة الشرارة التي أتاحت لتلك العلاقات أن تتخذ صورتها الثنائية التي تفضح من بين طياتها التفسخ الحقيقي بين تلك العلاقات و بعضها ، الأسرة الجديدة عائلها رجل قاسى صارم ذو خلفية عسكرية قوية ، يتضح لنا فوراً أن تلك الصرامة ما هي إلا وجه آخر لبرود و صمت مُقبض يكتنف حياة تلك الأسرة ، الابن تاجر مخدرات يتحايل على صرامة والده و يُرضى غريزته الحمقاء في التحكم و التسلط بشتى الطرق الممكنة ، و الأم صامتة مُنهَكة مسلوبة تماماً من الحياة و من القدرة على مجاراة ما يحدث ، على الجانب الآخر فزوجة ليستر هي النموذج النمطي للمرأة الأمريكية الناجحة ؛ عملية جداً ، تهتم بحديقة منزلها جيداً للدرجة التي يحسدها جيرانها عليها ، لكنها لا تتورع أن ترتمي في أحضان رجل عقارات شهير دون أن تُعير حساباً لزوجها و حياتها الأسرية ، الابنة هي نموذج تقليدي أيضاً للمُراهقة الأمريكية غريبة الأطوار التي تنفصل نفسياً و روحياً عن عائلتها الصغيرة الهادئة و التي تتمنى فقط عملية تجميل حتى تشعر بمزيد من الجمال خصوصاً مع إحساسها الدائم بأنها أقل جمالاً من صديقتها أنجيلا ؛ الصديقة المُثيرة الجميلة التي تظهر كشابة صاحبة علاقات جنسية كثيرة في حين أنها مازالت عذراء ، نموذج تقليدي أيضاً للتحرر الشكلي الفارغ مضموناً من قيمة الحرية كفعل إنساني أصيل ، تلك النظرة السريعة على شخصيات الفيلم تُخبرنا بأننا أمام صورة ثنائية شديدة التناقض داخل أبسط التكوينات المجتمعية "العائلة" ، فالهدوء هو وجه آخر للصخب ، و السلام هو وجه آخر للعنف و الجمال هو وجه آخر للقبح .
عظمة النص تتكثف في قدرته على استنباط الشيء من نقيضه التام ، و من قدرته على المزاوجة بينها في صورة واحدة قد لا تُعطينا في الوهلة الأولى الإيحاء بوجود تلك المزاوجة ، على سبيل المثال يتم استكشاف الحياة بجمالها و عفويتها داخل روح ليستر التي أصابها العفن على مدار السنوات ، ابنته جين تستكشف جمالها و رهافتها و قدرتها الفعالة على اتخاذ القرار تحت أطنان من الزيف و الادعاء المُحيط بها ، الزوجة تُخفى تحت صورتها النمطية السعيدة شلالاً من اليأس و فقدان الثقة في النفس ، أنجيلا التي نستكشف من بين صورتها النمطية الجامدة الخالية من الحياة جمال البراءة و حداثة التجربة ، يُخفى قناع الصرامة و الالتزام الذى يلبسه الأب العسكري رغبات دفينة تجاه ما يرفضه هو في الظاهر ، الابن تاجر المخدرات يتحسس العالم من حوله عن طريق كاميرا فيديو يرصد من خلالها الجمال الكامن وراء كل شيء سواء كان كيس بلاستيكي يتطاير بفعل الهواء بطريقة متواصلة لمدة 15 دقيقة أو سواء كان طائر ميت مُلقى على الأرض ، هنا النص لا يتوقف عند قدرته الجميلة على الرصد و على رسم تلك الصورة الثنائية و لكنه يقود كل الشخصيات إلى لحظة خلاص أو مُكاشفة تضع الصورتين المتناقضتين وجهاً لوجه فإما أن ينتصر الوجه القبيح أو ينتصر الجمال و الصدق و الحب .
*ملحوظة صغيرة .. مكتوب على أفيش الفيلم بخط صغير تحت العنوان : انظر عن قرب أكثر *
البناء البصرى للفيلم لا يقل عظمة عن البناء الدرامي له ، في المشهد الذى يرى فيه ليستر لأول مرة صديقة ابنته المثيرة ، يبدأ المشهد بلقطات عامة لملعب السلة الذى ستقدم فيه الابنة و صديقتها عرضهما الراقص ، تقترب الكاميرا بهدوء و بطء من وجه ليستر ، و اللقطة العامة للملعب تبدأ في تفريغ محتوياتها رويداً رويداً حتى تبقى أنجيلا فقط ، اللحظة التي تُدب فيها الحياة إلى جسد ليستر ، هي تلك اللحظة التي تقع عيناه بالكامل على أنجيلا ، هي تلك اللحظة التي تكون فيها الكاميرا قد اقتربت بالكامل من وجه ليستر و ينقطع صوت الهتاف و التصفيق بطريقة حادة حتى تدخل موسيقى توماس نيومان على شريط الصوت فنرى الكادر بعدها فارغاً إلا من أنجيلا و ليستر يتخيلها و هي تقدم له عرضاً راقصاً ذا إيحاءات جنسية شديدة ، ألوان المشهد تُعطى مثلاً تفضيلاً خفياً للون الأحمر ، تفضيلاً يزداد وضوحه تدريجياً مع الأحداث ؛ أوراق الورد التي تملأ تخيلاته الجنسية مع أنجيلا ، لون باب منزله ، الدم الغزير الذى نشاهده في مشهد النهاية العظيم ، البناء البصرى للفيلم يُترجم تلك الجملة المكتوبة على الأفيش ، تبدأ اللقطات في الغالب من زاوية واسعة كمشهد البداية مثلاً عندما يبدأ ليستر في الحكي و لا يلبث أن تقترب الكاميرا فيقل حجم الكادر و معه تزداد درجة الوضوح و المُكاشفة ، الإطار البصرى الواحد الثابت قد يحتوى بداخله إطار آخر أكثر اضطراباً و حركة كالمشهد العظيم الذى يجلس فيه جين و ريكي لمُشاهدة اللقطة التسجيلية التي صورها ريكي لكيس بلاستيك يتطاير في الهواء لمدة 15 دقيقة متواصلة ، يبدأ المشهد بكادر ثابت لهما من الخلف و هما يشاهدان اللقطة التسجيلية على التلفاز أمامهما ، الإطار العام للصورة ثابت لكن في العمق هناك حركة و اضطراب ، خفة يتطاير بها الكيس بفعل الرياح ، تبدأ الكاميرا في التحرك ببطء شديد مع استمرار حركة الكيس بانسيابية جميلة على التلفاز الموجود في منتصف الكادر الرئيسي و مع حركة الكاميرا ينطلق مونولوج لريكي عن الجمال الكامن وراء كل الأشياء ، الإطار البصرى الداخلي يُفقد الإطار الخارجي العام معناه الأصلي و الظاهر للوهلة الأولى و يُعطيه معانى أخرى واضحة أيضاً لكنها تتضح فقط عند الاقتراب منها أو عند وضعها مع ما يناقضها ، يمتزج البناء البصرى إذن مع عبقرية النص في بناء شخصياته في رسم الحالة العامة للفيلم و التي تتحرك خلالها الشخصيات داخل أُطر مزدوجة المعنى تتحقق من خلالها في النهاية بفعل التداخل و التفاعل صورة أكثر صدقاً و جمالاً لمفهوم العلاقات بين البشر .
الجمال الأمريكي هو التجربة الروائية الأولى لسام مينديز بعد عدة تجارب مسرحية ناجحة ، يُشحن فيها طاقاته كي يتعامل بحساسية و رهافة مميزة مع نص يتلاعب بأحداثه و شخصياته بطريقة فعالة و نافذة ، يخرج بأداء تمثيلي عظيم من مُمثليه ، و يرسم بصرياً و صوتياً المناخ المُلائم الذى يزيد ربما من تأثير النص و قوته الملحوظة .
0 التعليقات :
إرسال تعليق