كتب : ياسر ريحاوي
التقييم : 4.5/5
بطولة : روبي دارين ، ستيلا ستيفنز
إخراج : جون كاسافيتز (1961)
"في هذا البلد يموت
الناس في الحادية والعشرين, يموتون عاطفياً في الحادية والعشرين, مسؤوليتي كفنان
تكمن في مساعدتهم لتجاوز ذلك السن, الأفلام هي خريطة عبر الحقول العاطفية والفكرية
التي تؤمن الحلول للمحافظة على الألم" – جون كزافيتيس
كموضوع لأول أفلامه الهوليوودية
اختار الأمريكي من أصل يوناني جون كزافيتيس الفن والشهرة والحب, غوست بطل الفيلم ومجموعته
الموسيقية هم فنانين رفضوا المساومة أو العمل من أجل المال, يغنون في الحانات
الصغيرة والحدائق العامة فيما لا يبرح غوست محاولاً إقناعهم بأن الهدف وراء كل ذلك هو متعتهم الشخصية
والتعبير عن أنفسهم قبل كل شيء, نشاهدهم مستمتعين فعلاً في صالة بلياردو صديقهم
اليوناني بروح شابة طموحة تضع الأمل دوماً قبل صعوبات ومتاعب الحياة, يتغير كل ذلك
عندما يتعرف غوست على جيس يولانسكي وهي فتاة لا يختلف حالها كثيراً عن حال غوست ومجموعته,
امرأة جميلة ومغنية فاشلة تدفع ثمن ذلك مع كل يوم يمضي, يحاول غوست مساعدتها
وإقناعها بأنها تستطيع تحقيق النجاح, يغير من مفهومها تجاه الحب ويعطيها شيئاً
حقيقياً, مشاجرة بسيطة تطيح بكبريائه أما حبيبته التي لا يستطيع حمايتها تضع غوست
أمام الحقيقة التي حاول الهروب منها منذ البداية, العالم السيء والجحيم الموجود
أصعب من أن يواجهه شخص بمفرده, تموت الأشياء الجميلة داخله ليصبح عازف جاز بالأجرة
لدى امرأة ثرية تحاول إعادة شبابها برفقته, ثم يستفيق مجدداً ليعود لحضن حبيبته
ومجموعته .
كما نرى السرد ليس
قوياً, التحولات غير مقنعة أحياناً والحوارات ليست بارتجالية كزافيتيس المعهودة,
ومع كل تلك المساومات والنقاط التجارية التي تحسب في غير صالح الفيلم تبقى النتيجة
مبهرة كفيلم جاز شاعري قوي وواقعي داخل هوليوود على الأقل, روح كزافيتيس الفنان
وأفكاره ورؤيته تبقى المسيطرة مع حركات الكاميرا الكلوز آب والأسلوب الوثائقي الذي
استخدمه مراراً في صورة عاطفية صادمة لإبراز الألم الذي تعيشه شخصياته, صراع
الفنان الدائم في محاولة تشبثه بمبادئه يتجسد في كل جوانب الفيلم نفسه لنشعر بما
مر به كزافيتيس وبمعركته في سبيل الحرية التعبيرية مع كل مشهد, الجميل
دوماً في أفلام الرجل أنها نابعة من القلب ومن متعة عذبة وقاسية في نفس الوقت
مصدرها الرغبة في التعبير عن النفس بكل حرية وصراحة, مع كل مشهد نستطيع لمس الرغبة
في التجريب وكسر القيد العاطفي التي أطرت به هوليوود أفلامها , موسيقى الفيلم لم
تكن في أغانيه وحسب, يأخذنا الإيقاع "الجازي" لحركات الكاميرا والتصوير الجميل للوحدة, الرغبة,
اليأس في رحلة موسيقية لجمال الحياة وقسوتها لتنافس مقطوعات مايلز ديفيس ,
الأداءات ليست بالرائعة ولكن عاطفتها تبقى مثيرة للاهتمام وتحقق هدفها في خدمة
صاحب الرؤية, ستيلا ستيفنز هي الأكثر تميزاً في دور بولانسكي, الدور المعهود
عادةً في أفلام كزافيتيس لزوجته جينا رولاندز يقدم هنا بطريقة أكثر رقة وأقل تأثيراً من جينا
بالتأكيد مع عدم إغفال موهبة ستيفنز التي أظن بأنها ظلمت عبر مسيرتها .
كزافيتيس نفسه لم ير الفيلم
نجاحاً ولم يكن مفضلاً لديه كما أنه اشتكى من فترة التصوير القصيرة التي أعطاه إياها
الاستديو لمدة ثلاثين يوماً عوضاً عن ستة أشهر التي شعر بحاجته لها, بالتأكيد أثر
ذلك على الفيلم الذي يبدو متسرعاً وغير واقعياً في بعض اللحظات مع كل هذا يبقى كل
منShadows و Too Late Blues بمثابة مرحلة التحضير لكزافيتيس, نشاهد هنا شاباً يجرب ويكسر التقاليد مرة بتمويل
ذاتي وأخرى داخل السرب الهوليوودي, في بداية بحثه عن مواضيع التي ستعود بشكل أوضح
وأوسع وأكثر ثقة في أفلامه اللاحقة, الشجاعة والاندفاع كبيرين وستزيدها السنين
خبرة وقوة في التمكن من الأسلوب والأدوات .
الصراحة هي الكلمة
المفتاحية في أفلام الرجل, الرغبة في التعبير عن النفس بمنتهى المكاشفة والحرية لم
تبدو بمثل هذه الإلحاحية والاحتراق إلا عند قليلين جداً, الروح المفعمة بحب الحياة
والرغبة في الاستمتاع ببساطتها تتشكل في عذوبية ممزوجة بالواقعية, الاصطدام
المتكرر بفظاعة المحيطين في المجال الفني والحياتي العام يصور بمنتهى القسوة
النابعة من تجربة ذاتية مريرة معاشة في نفس لحظة تقديمها فنياً, أعمال خالدة ليس
لها ما تشبهه وتتربع مكانة خاصة في تاريخ السينما جعلته فناناً حقيقياً صرخ بما في
داخله مقاوماً كل ذلك الصمت وانعدام الإحساس العام.
0 التعليقات :
إرسال تعليق