كتب : مصطفى الباجوري
التقييم : 5/5
بطولة : وارين بيتي ، جولي كريستي
إخراج : روبرت ألتمان (1971)
روبرت ألتمان من المخرجين الذين
تشعر دائما بوجودهم خلف الكاميرا ، لا تفتقد لمستهم ولا تذوب أفكارهم في شكل
الحكاية وتعقيداتها وتفاصيلها ، هو قبل كل شيء مخرج صاحب رؤية واضحة في تكوين كل
صورة و في حجم كل لقطة و في حركة الكاميرا وأداء الممثلين في كل مشهد ، هو واحد من
المخرجين الذين يحملون هما اجتماعيا وإنسانيا قبل أن يتملكهم سحر السينما .
كباقي جيله انطلق ألتمان
متأثرا بحماسة الشباب والسينما الأوروبية المتمردة ودعوات التحرر الجنسي والمجتمعي
وقبل كل ذلك فيتنام التي أكسبتهم شعورا ثقيلا بعبثية الحرب و جنونها وزيف عالم
السياسة والسياسيين . بمعنى آخرعبرت كل تلك العوامل بشكل ما عن فقدان الثقة بالحلم
الأمريكي الذي بدا في كثير من الأحيان علبة جميلة مغلفة من الخارج بشكل جذاب
فأرادوا فتح هذه العلبة وفهم متناقضاتها و تفكيك عناصرها والمشاركة عن طريق
السينما في إعادة تركيب هذه العناصر في أطر مختلفة متشابكة منها الجريمة والعنف و
التلصص والفوضى والجنس واللامبالاة و الموسيقى والسخرية المريرة .
تدور أحداث فيلم ماكاب و ميللر في
في الغرب القديم في احدى المدن الجديدة التي لا يوجد بها سوى منجم وخيام يعيش فيها
عمال المنجم من المهاجرين الصينين وحانة يملكها رجل يدعى شيهن وكنيسة لم يكتمل
بناؤها وبعض البيوت الخشبية وعدد قليل من السكان . يظهر رجل يدعى ماكاب وهو
مقامر يريد أن يستثمر أمواله في بناء حانة آخرى ومكان للدعارة في هذه المدينة الجديدة .
إذا توقفنا قليلا
أمام مشهد البداية : رجل غريب يدخل حانة تلاحقه النظرات المتسائلة ، يسأل في ثقة
عن الباب الخلفي حيث توجد أمتعته ، يخرج
ثم يعود مجددا وفي يده غطاء أحمر يضعه على احدى الطاولات ولا يكاد يكمل وضع الغطاء
حتى يتجمع حوله الموجودون بالحانة ويشرعون في لعب القمار، نسمع حديث بين صاحب
الحانة وآخر بخصوص الرجل الغريب وحديث بين اثنين آخرين عن شيء آخر مختلف، كل ذلك
يتم بشكل متداخل وسريع دون أن يهتم السرد بالتمهيد لشخصياته والتعريف يهم بشكل
كلاسيكي بل يتم كل شيء في المشهد بطبيعية للغاية كأن الكاميرا انتقلت بالفعل إلى
هذا المكان في ذلك التوقيت وكل واحد يتكلم بتلقائية كأنه موجود في هذا المكان من
فترة طويلة جدا. هذه البداية و هذه الطريقة في تقديم الشخصيات وهذا الحوار العفوي
البسيط الذي يخلو من المباشرة والفلسفة من السمات المميزة لأسلوب ألتمان وهو
مغامر بلا شك في سرده لأنه بشكل ما يعتمد على خبرة مشاهديه وصبرهم للاندماج مع
بداياته واستعياب شخصياته بشكل كامل .
ماكاب رجل مغامر ، نظرته
للحياة بسيطة وفيها قدر كبير من السخرية واللامبالاة ، مخمور دائما ويحدث نفسه
أحيانا بما يريد أن يقوله للآخرين ، في أكثر الأوقات يبدو ساذجا في حين تكون
الأمور والناس من حوله في منتهى الجدية ،
لا يجيد التخطيط ويسهل خداعه أيضا كما نرى في مشهد شرائه للعاهرات ومشهد شراكته مع
ميللر ،
ومع ذلك فهو قادر بشكل غريب على البناء والعمل والنجاح . يخلق المجتمع الجديد
أساطير حول ماضيه وحول قتله أحد الرجال
أثناء لعب القمار ولا يحاول هو أن ينفي ذلك أو يؤكده ، والشيء الوحيد
المؤكد عن ماضيه هو أنه غير معروف وغير مهم وأنه يستفيد من السمعة الناتجة من هذا
الغموض وهذه الحكايات .
ميللر امرأة مغامرة أيضا
ولكن من نوع آخر؛ فهي عملية جدا وواقعية جدا. تعرض على ماكاب أن تشاركه في الحانة
التي يبنيها خصوصا وأنها خبيرة في بناء وإدارة أماكن الدعارة الجيدة . ترسل بالفعل
في طلب عاهرات محترفات من سان فرانسيسكو وتضع نظاما جديدا يجعل المكان مختلفا
وناجحا عما كان يمكن أن يصبح عليه مع ماكاب وحده .
يظهر رجلان يعملان في
شركة كبيرة تسعى لاحتكار وتملك المجتمع الجديد والسيطرة عليه . يقدمان عرضا لشراء
كل ممتلكات ماكاب وشريكته ميللر من نوعية العروض التي لا يمكن رفضها على طريقة
المافيا . تفكر ميللر في العرض بواقعية وتطلب من ماكاب الموافقة وعدم العبث مع
هؤلاء الرجال بينما يتعامل ماكاب معه بطريقته الساذجة المغامرة ويماطل ظنا منه
أنه سوف يحصل على سعر أفضل .. يغادر الرجلان ولا يكملان الصفقة ويصل إلى المدينة
ثلاث رجال آخرون في مهمة واحدة وهي قتل ماكاب .
تتمحورالعلاقة بين ميللر و ماكاب حول
المجتمع الجديد الذي يتشاركان في بنائه حيث يظل دائما الاحساس بالمكان وتصوراتهم
عنه حاضرا في عمق العلاقة بينهما ، فماكاب مندفع وساذج في طريقة حبه لميللر ويبدوعلى
استعداد للمغامرة الغير محسوبة معها ومع عرض الشركة الاحتكارية كذلك، يشعر بالغيرة
عندما يعرف أنها تقضي الليل مع أحد الزبائن ويشعر بالغيرة عندما يجد أنها تعرف كيف
تدير المكان وتجعله ناجحا. ميللر على الجانب الآخر نظرتها للمكان نظرة واقعية جدا
ونظرتها لماكاب
كذلك نظرة واقعية ، إذا أراد أن يقضي الليل معها فعليه أن يدفع مثل الآخرين . تعرف جيدا الفرق
بين ما يفرضه المجتمع وما ينبغي عمله وبين المغامرة الرومانسية بعيدة المنال
وعندما أصبح المجتمع الجديد و ماكاب مهددين تنصحه بالهروب .. وفي نهاية الفيلم بعد
المطاردة الدامية بين ماكاب والقتلة نراها تدخن الأفيون في حي الصينين
وتتأمل الألوان المرسومة على فارزة صغيرة في مشهد يعيد إلى الذاكرة نهاية فيلم سيرجو ليوني Once Upon a Time in
America
.
أجواء أفلام الغرب
الأمريكي لا تكاد تكون محسوسة هنا بل على العكس الفيلم مقدم بطريقة أقرب للسخرية
من أفلام الغرب في كل تفاصيله منها طبيعة المجتمع الأنثوي والحالة الكاريكاتورية
للشخصيات والأجواء العابثة المرحة لبيت الدعارة وكذلك الحوار الارتجالي المتداخل
المميز لأسلوب ألتمان . اعتمد الفيلم كذلك على طريقة تصوير تنقل الاحساس بالفترة
الزمنية القديمة مثل التصوير المظلم والإضاءة الطبيعية حتى الطقس الشتوي يجعل
الطين والمطر وتساقط الثلوج الكثيف هو المكون الأساسي للبيئة وبذلك تصبح عائقا
إضافيا أمام الشخصيات بدلا من الصحراء الشاسعة الحارة التي تشكل ساحة مبارزة
مكشوفة لأبطال الغرب التقليدين الغلاظ الذين يستعرضون القتل .
لا نشعر بأجواء أفلام
الغرب سوى في نهاية الفيلم في مشاهد
المطاردة بين ماكاب والقتلة المأجورين وذلك من خلال اللقطات الواسعة وتحديد أماكن
المطاردة بشكل بانورامي والسكون والمطاردة نفسها والقتل والموت في النهاية .
ينتقل ألتمان إلى
زمن بعيد ويصور مجتمع بسيط في مرحلة التأسيس ويعيد تشكيله برؤية واقعية آنية ساخرا
من كل متناقضاته ودوافعه ومنطقه الخاص المُهدد باستمرار، سواء كان هذا المجتمع
الجديد يعتمد على المغامرة والحظ والرومانسية
مثل أن تحمل الشعر بداخلك دون أن تعرف كيف تكتبه كما يقول ماكاب وسوف
تنتهي لامحالة ، أو يقوم على المعرفة والادراك لحقيقة المجتمع وقوانينه السيئة
والقدرة على البقاء والاستمرار في هذا الإطار وعندما تسوء الأمور بشكل لا يمكن
احتماله لا يوجد بديل آخر سوى الهروب .
0 التعليقات :
إرسال تعليق