كتب
: أحمد أبو السعود
التقييم : 4.5/5
بطولة : جون
ميلز ، هايلي مايلز
إخراج : جي
لي تومسون (1959)
هذا نص ذكى و مراوغ .. يتحدى نفسه مع كل تصاعد درامي يصنعه و يتجاوز التحدي بتحدٍ أقوى منه ، نصوص مثل تلك من الصعب أن تحافظ لنفسها على إيقاع درامي متصاعد ، من الصعب أن تُمسك بزمام الشخصيات و الأحداث ، لكن هذا النص قادر على توليد فعل مُفاجئ مع كل حدث نتابعه أمام أعيننا و مع التفكير نجده فعلاً منطقياً بالنظر إلى الأساس الذى صنعه النص لنفسه في البداية .
فلنسترجع إذن تتابع أحداث البداية : بحار بولندي شاب يعود بعد رحلة بحرية طويلة
مُتشوقاً لرؤية حبيبته ، يجدها قد انتقلت تاركة ديوناً وراءها على الرغم من
الأموال التي كان يرسلها إليها ، يصل إلى عنوانها الجديد بعد السؤال عنه بمساعدة
فتاة صغيرة تعيش في نفس المكان الجديد ، الفتاة لا تلعب مع من في مثل سنها لأنها
لا تملك مسدساً لعبة ، يصل البحار إلى حبيبته ، تخبره بأنها لا تريده ، تتصاعد
وتيرة الشجار بينهما حتى يقتلها في لحظة غضب و انفعال أعمته ، فى أثناء الشجار
تتلصص الطفلة عليهم و ترى كل ما يحدث .. المشهد بدأ طبيعياً ، لا يوحي بأي توتر ،
رويداً رويداً يبدأ التوتر في الظهور ، و لكنه توتر يلعب على جوانب عدة ، كل
تفصيلة يقدمها النص في ذلك المشهد ما هي إلا أجزاء ستتشكل بها الأحداث بعد ذلك
كشنطة السفر التي تركها البحار في مسكنه القديم ، أو المفرقعات الطفولية التي تلعب
بها "جيلي" ، أو شقاوة "جيلي" كأي طفل آخر و
كذبها المستمر حتى تنجو من أي عقاب قد تُلحقه بها عمتها ، الذكي في النص أن تلك
التفاصيل في ظاهرها لا يُحتمل لها أن تُشكّل الصورة أو النتيجة التي يؤول إليها
المشهد في النهاية ، لكن النص ينفُذ إلى العمق ، عمق الرغبة و الهوس الذى يتملك
شخصين مختلفين ؛ هوس البحار بحبيبته و هوس الطفلة بألعابها ، الهوس هنا لا يُتَرجم
في شكل تشريح نفسى قاتم قدر ما يتم ترجمته على صورة إحداث تقارب أو تواصل ما بين
الشخصيتين خالقاً هنا علاقة صداقة غريبة تنشأ بينهما ، قوامها في الظاهر هو
المصلحة و الحماية ، و لكن في عُمقها هي علاقة تجميع أجزاء مفقودة من كلتا
الشخصيتين ، الطفلة لا تكترث للعيش مع عمتها و ترغب في الرحيل و الانطلاق و
الإحساس ربما بحريتها من وجهة نظر طفلة طبعاً تُريد أن تلعب و تلهو بدون ضابط أو
رابط ، و البحار الشاب يهرب من لحظة ضعف ألمت به و أعمته عما كان يفعله ، الشخصيتين
ليست شريرتين ، الأفعال التي نتجت عنهما شريرة و مؤذية و لكن الجوهر ليس كذلك ،
الجوهر ضعف و وحدة و رغبة في الهروب من قيود كانت لها صلة مباشرة و غير مباشرة بما
فعلوه .
يسير النص طوال الأحداث على تلك الشاكلة ، ما إن يبدأ المشهد بفعل له مود خاص حتى ينتهى بفعل مُفاجئ له مود خاص آخر ، مطاردة مثيرة في كنيسة بين الشاب و الطفلة تنتهى بعلاقة صداقة غريبة بينهما ، رجل بريء يتم توجيه الاتهام إليه يجد أنه هو نفسه يلعب دور القاتل بشكل لا يدرى كيف ، و في ظل كل هذا هناك الأساس القوى و التفاصيل المهمة التي زرعها النص في البداية ، تجد أثرها مُمتداً و مؤثراً طيلة الأحداث مثل شنطة السفر ، و يُحافظ النص ببراعة على مدار تلك التغيرات التي يحفل بها الفيلم على قوته و قدرته على توليد إيقاع مثير ذي بناء درامي مهم و منطقي و غير مُبالغ فيه إطلاقاً .
صورة الفيلم تستسلم لطبيعة السيناريو ، مشهد الكنيسة خير مثال على ذلك ، توزيع الإضاءة في ذلك المشهد و التدرج في تغييرها مع كل تفصيلة تظهر ؛ إخفاء "جيلي" المسدس تحت ملابسها / ظهور الشاب المُفاجئ في الكنيسة بين الحشود / انتهاء مراسم الزواج / خوف "جيلي" من الخروج / إغلاق أبواب الكنيسة عليها / انطفاء الأنوار / اختباء الشاب وراء أحد العواميد / رعبها عندما شاهدته / اختباءها منه / عثوره عليها / تهديدها له بأنها تعرف كل ما حدث / انقلاب الطاولة عليها / خوفها و اعترافها له بأنها كذبت على الشرطة / ثم تقريب المسافات بينهما و اعتراف كل شخص للآخر بما يدور بداخله ، تستسلم الصورة هنا تماماً لكل حدث من هؤلاء حيث توزيع الإضاءة و وضع كل ممثل في كل كادر و زوايا التصوير و حجم الكادرات ، دعم قوى للنص ، الصورة ترسم الحالة المتغيرة المُتصاعدة كي يكون التأثير على المُشاهد في النهاية مُضاعفاً و قوياً .
قوة النص بالكامل يقع عبئها على ممثليها و تحديداً على من تقوم بدور الطفلة ، هايلى ميلز تقدم أحد أجمل أداءات الأطفال التى شهدتها شاشة السينما ، من الداخل و من الخارج تستحضر روح الطفلة الشقية المُشاكسة التي لا تعي و لا تُدرك خطورة ما يحدث ، أو بمعنى أدق نظراً لفطرتها فهي تنظر إلى الأمور و الأشخاص بصورة أكثر تسامحاً و بصورة ربما أكثر تفهماً لأى فعل خاطئ قد يقوم به شخص ما في ظروف ما ، هنا اللعب بالأوراق كثير و الخلط بينهم وارد و قد حدث بالفعل ، الشخصية في بؤرة الاتهام ، تضر شخصاً بريئاً و تُنقذ شخصاً مُذنباً ، لكن هايلي ميلز تُحافظ طوال الوقت على روح الطفلة التي تتمسك بألعابها و تحمى صديقها الجديد و بذلك تُحافظ على مساحة التواصل بينها و بين المُشاهد ، أداء خاطف ومهم و مؤثر .
إذا أعددنا قائمة بأكثر الأفلام الرائعة تجاهلاً و نسياناً لاحتل هذا الفيلم موقعاً محترماً ، و هو حاله كحال أفلام بريطانية كثيرة من نفس الحقبة الزمنية لا تلاقى الآن رواجاً و انتشاراً واسعاً رغم قوة تلك الأفلام و تميزها و استباقها زمنها في رسم الشخصيات و الدخول إلى مناطق درامية جديدة و مُجددة .
0 التعليقات :
إرسال تعليق