كتب
: خالد إبراهيم
التقييم : 4/5
إخراج :
ستان باركاج (1963)
من
يحتاج المال كي يصنع فيلماً ؟ من يحتاج الممثلين ؟ الفنيين ؟ من يحتاج الكاميرا ذاتها
لصنع فيلم ؟
الإجابة : أي
شخص آخر سوى (ستان براكاج).
"ها هو
فيلم صنعته بحزن عميق ، الحزن مهنتي بطريقة ما ، لكن الحزن كان مفيداً لعصر الفيلم
الصغير مني ، قلت لنفسي : تلك العثث المجنونة تطير إلى ضوء الشمعة ، فتحرق نفسها
حتى الموت ، هذا ما يحدث لي ، لا أملك مالاً كافي لصنع تلك الأفلام ، لا أتمكن من
إطعام أولادي كما ينبغي ، بسبب تلك الأفلام اللعينة ، أنا أحترق هنا ، على
المصابيح كانت هناك أجنحة العثث الميتة ، أكره هذا ، يا لها من كآبة ! ، بدأتُ في
التقاط الأجنحة ولصقها على شريط فيلم ، أعيدُ لهم الحياة مجدداً ، أحركهم مجدداً ،
أمنحهم نوع من الحياة عن طريق آلة العرض" – ستان
براكاج
أعتقد بشدة أن عملية
صنع الفيلم لا يجب أن ترتبط بمدى التقدير المستحق للفيلم ، فالمنتج النهائي هو
الشيء الهام الذي يجب الوقوف عنده ، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى ، لكني أعتقد
كذلك أن أغلب ما أعتقده – خاصة سينمائياً – هو محض هراء .
عندما يعجبنا المنتج
النهائي – الفيلم – مثلاً ، نبحث بضراوة عن كيفية الصناعة وطريقة التنفيذ ، ننهال
بالمديح على الفيلم وصانعه ، بينما إن حدث العكس ، لا نملك سوى العبارة الفلسفية
العميقة "العمل قبل العرق" ، في فيلم (ضوء العثث) للأمريكي براكاج تصبح معرفة عملية
صنع الفيلم ضرورية ، قبل المشاهدة وبعدها ، لأنها قد تصبح أكثر أهمية من الفيلم
نفسه ، تضيف مزيداً من الحزن وضيق التنفس ، نفس النتيجة المتوقعة أثر مشاهدة فيلم
الرجل الآخر The Act of Seeing with One's Own Eyes ، وإن
كنت أعتقد أن الفيلم الأخير يجب أن تتم مشاهدته بأقل معلومات مسبقة ، حتى لا يصبح
المشاهد متحفزاً لما سيراه ، و يا لهول ما سيراه !
السينما تُعلِّمنا –
وهذا هو الشيء الهام حقاً – أن لا قواعد ثابتة يجب أن تكون في السينما ، لا حتى بخصوص
فهمنا لها ، وتقديرنا لأفلامها ، كل أفكارنا ونظرياتنا المسبقة عليها أن تظل دوماً
محل اختبار وإعادة نظر ، وإلا حصلنا على سينما ميتة ، وتجربة حياتية مُفلِسة لا
تستحق الوقت المُهدَر .
الأفلام التجريبية
تحمل على عاتقها مهمة السينما الأكثر قداسة ، إثبات قاعدة السينما الوحيدة ،
الخاصة بعدم وجود قواعد ، فتُعيد السؤال الأبدي عن جوهر السينما وماهيتها ، السؤال
الذي لن نحصل له على إجابة تدوم أو تقنع ، طالما وجدت تلك الأفلام .
حسناً ، لدينا فيلم براكاج الذي لا يعيد تعريف
السينما ، إنما يؤكد فكرتها الأولى ، الضوء والظل والحركة ، فيلم لم يتم صنعه
بكاميرا ، أربع دقائق فقط من مادة الفيلم الخام التي تم لصق أجنحة العثث وأوراق
الزهور الميتة عليها ، بالطبع كان بإمكانه تصوير العثث والزهور الموتى ، لكنه فضّل
أن يجعلهم جزء مادي من الفيلم ، جزء مكوِّن للفيلم ، أو بالأحرى الفيلم ذاته
حرفياً ، الأمر الذي كان كريماً وحزيناً ، فالفيلم الجنائزي جاء من الحزن ليضيف
عليه حزناً جديداً ، جاء الفيلم من رؤية المخرج المُفْلِس للعثث التي تطير صوب ضوء
الشموع ، فتحترق ، حيث وجد نفسه مثل تلك العثث ، رغم أنه يملك من العقل ما قد
يمنعه من الذهاب إلى ضوء الشمعة الحارقة ، لكنه كالعثث عليه أن يحترق في سبيل ما
يحب ، أو في سبيل تلك الرغبة الحارقة لصنع أفلامه ، رغبة لا يمكن مقاومتها أو
تأجيلها .
اليأس ثم اليأس ، كما
تمتلك السينما سمعة سيئة لقتلها فنانيها ، بالإضافة إلى تعذيبهم قبل وخلال وبعد إنتاجهم
الفني ، لكننا أيضاً نعرف كيف أن السينما أنقذت العديد من أهم المخرجين والأساتذة
الكبار ، أنقذتهم من ثقل المرض أحياناً ، ومن اليأس المُفضي إلى الموت غالباً .
الشيء الأكثر حزناً
هو أن الفيلم بمكوناته الميتة سلفاً ، يذكرنا بأن السينما ربما تكون أكثر الفنون ارتباطاً
بالموت ، أفلام كثيرة بين يدينا الآن ، مر عليها قرابة القرن وبعضها أقل ، قد مات
كل العاملين بها ممن نراهم على الشاشة ومن هم وراء الشاشة ، معظم الأفلام – كما
نعرف – تتطلب طاقم عمل كبير ، كل هؤلاء ربما موتى الآن ، الممثلون بالأخص – حيث
أننا نراهم بصورة مباشرة – قد تم الحفاظ علي بعض من حيواتهم داخل المادة الفيلمية ،
ينتظرون إعادتهم للحياة من جديد عن طريق العرض ، العمل الفني وطاقمه يصبح ميت إلا
أن يتم مشاهدته ، فيصبح الجميع أحياء من جديد لبعض الوقت ، يتم إعادة بعثهم
واستحضار أرواحهم ، لكن الابتسامة التي تتخلل كل هذا الحزن ربما ، تكون في إحساس
غامض بسعادة العمل وصانعيه لاستحضار أرواحهم المُطْمَئِنّة في كل مرة نعرض فيلمهم .
0 التعليقات :
إرسال تعليق