كتب : أحمد أبو السعود
التقييم : 4/5
بطولة : لانا تيرنر ، جون غيفن
إخراج : دوغلاس سيرك (1958)
"قطعاً أؤمن أن السعادة موجودة فقط إن سلّمنا أنه يمكن أن تُدمر بسهولة" .. دوجلاس سيرك .
الحياة عند دوجلاس سيرك هي ميلودراما متواصلة ، تتقلب أحوال البشر بين لحظة و أخرى كما تتقلب المشاعر و الأحداث طبقاً لقوانين الميلودراما ، يقدمها في أفلامه بمنظور خاص و مميز ؛ منظور الحياة ، يخلط المشاكل العاطفية بالأسرية بالاجتماعية ، يتتابع التأثر و التأثير بين الشخصيات بالطريقة ذاتها التي تحدث في الحياة ، ربما لم ننتبه إلى ميكانيزم ذلك التتابع و لكنه في حقيقة الأمر يحدث بروح ميلودرامية واضحة بل و متطرفة أحياناً ، كلام يبدو مُبالغاً فيه بشدة ، حسناً .. أفلام دوجلاس سيرك تبدو إقناعاً كافياً لمن لا يصدقون .
يفتتح سيرك فيلمه بأغنية يستهل مطلعها بالتساؤل عن معنى الحب بدون
عطاء ، تتواصل الأغنية مع نزول تتر البداية و في الخلفية تتساقط قطع كريستالية جذابة
تتجمع خالقة بريقاً مُلوناً جميلاً ، منذ البداية يستحضر سيرك روح الميلودراما
في أكثر صورها وضوحاً ، حيث التساؤلات العاطفية التي تُقلق الشخصيات ، و المبالغات
اللونية البراقة التي تُناسب شكل الأحداث و تتابعها ، تتر النهاية أيضاً فيه نفس
القطع الكريستالية المُتراصة فوق بعضها البعض و فيه الموسيقى العاطفية الملحمية التي
تختم نهاية حزينة ، بين نقطتي البداية و النهاية يرسم سيرك أحداثه و
شخصياته بنفس الطريقة ، و لنبدأ من مشهد البداية ، اللقطة الأولى واسعة لشاطئ
مزدحم بالمصطافين الذين يستمتعون بالبحر و الشمس ، و من بين الزحمة تتحرك امرأة و
تهتف بقلق على طفلتها التي ضاعت منها ، تقف على درج أحد السلالم تهتف ثانية بينما
يلتقط لها شخص غريب معه كاميرا صوراً ، يزداد قلقها ، تتحرك يميناً و يساراً ،
تصطدم بالشخص الغريب الذى يساعدها ، تجد طفلتها تلعب مع طفلة أخرى ، تبدأ الشخصيات
الرئيسية بالاستحواذ على صدارة المشهد ، يبدأ الحوار ، تبدأ فوراً أزمات الشخصيات في
الظهور ؛ أزمات لها خلفيات أسرية و اجتماعية واضحة ، تكمل الطفلتان لعبهما ،
يحركان مظلة فيظهر من تحتها حبيبان يتبادلان القبلات ، تُشاكس الطفلتان رجل سمين
فيصورهما الشخص الغريب ، قيمة ذلك المشهد أنه بدأ من الإطار الذى ينفذ من خلاله دوجلاس سيرك إلى
الميلودراما ، ألا و هو الحياة ، من بين الزحمة المُعتادة و الحدث المُعتاد تظهر
الشخصيات المُعتادة أيضاً و لكنها نظراً لزمنٍ ما و ظروفٍ ما لم يتم تسليط ضوء
عليهم أو ربما لم يتم تصويرهم كما هم بدون إضافة أي رتوش أدبية ، تفاصيل المشهد
تحفل باحتفاء واضح بالحياة : الحبيبان اللذان يتبادلان القبلات ، المُصور الذى
يحمل كاميرته في انتظار تلك اللحظات التي ستحتضن كاميرته حتى و إن كانت لإمرأة
تبحث عن ابنتها الضائعة بقلق و توتر ، المرأة السوداء التي لا تحتمل فقط الوضع الاجتماعي
الذى يفرضه عليها لون بشرتها و لكنها تحتمل أيضاً نظرة المجتمع تجاه طفلتها بيضاء
البشرة ، يعطينا المشهد إيحاءاً خبيثاً بأن الفيلم سيسير بعد ذلك في منحنيات
عاطفية ضاغطة و قدرية لقاء الأبطال تدعم ذلك الشعور ، و لكن بناء الميلودراما -
كما الحال في أغلب أفلام سيرك - يأتي مُختلفاً ،
فيبتعد الفيلم بذكاء عن طبيعة المشاكل ليُركز على دواخل الشخصيات و تبقى
تلك المشاكل في الخلفية كأثر مُمتد يبلغ ذروته عندما يتلامس مع واقع يفرض ذلك
التماس ، فيعترض حب ستيف للورا مع طموح لورا في التمثيل ، و سوزي تحب ستيف بعد ذلك استكمالاً فقط لجانب افتقدته كثيراً ، و سارة جين لا
تحتمل نظرة المجتمع لها فتصّب ذلك غضباً على آنى - والدتها - و
تقرر عند وصول غضبها إلى ذروته أن تترك المنزل ، لم ينتقم ستيف من لورا بل ظل
الحب بينهما قائماً ، و لم يحدث شحن و توتر عاطفي و نفسى بين لورا و سوزي
عندما قررت لورا أن تتزوج ستيف بعد أن وقعت سوزي في حبه ، لم يُحولّ الفيلم سارة جين إلى فتاة ضائعة
مُنحلة جاحدة بل أظهرها كفتاة غاضبة لم تحتمل سواد ذلك الغضب ، لا يفصل سيرك طبع
الحياة المُتقلب عن إطار الميلودراما فتخرج الصورة في النهاية بها نفس القدر من
الصدق و الزيف الموجودين في الحياة ، هي شعرة رفيعة يحافظ دوجلاس سيرك عليها
بحيث لا يدفع مُشاهديه أن يُصدروا أحكاماً أخلاقية تجاه الشخصيات ، لا يُصورهم
كملائكة و لا كشياطين ، هم بشر ، و طبقاً لنظريته فالميلودراما طبعهم و الطبع
دائماً غلاّب .
تعامل دوجلاس سيرك مع الصورة لا يختلف عن تعامله مع الشخصيات ، دائماً دواخل الشخصيات هي التي تسيطر على خصوصية المشهد البصرية ، كمشهد المواجهة الأول بين ستيف و لورا عندما خيرها بين الحفاظ على حبهما و بين طموحها كممثلة ، توزيع الإضاءة و حركة الممثلين في الكادر ، ضيق السلالم و الاختناق التي تفرضه على الشخصيتين ، الظلال و حجم اللقطات ، توزيع يليق بالتوتر الموجود في المشهد ، يليق بالطموح الذى يجب على لورا أن تُرضيه ، يليق بالحب الذى يحمله ستيف تجاه لورا ، و ثانية توزيع بصرى لم يصور لورا كشيطان و لا ستيف كملاك أو العكس ، مثال آخر لمشهد القبلة الأولى بين لورا و بين المخرج الذى اكتشفها ، تفرض الظلال على القبلة حالة من العزلة و التنافر كونها بالأساس قبلة مُزيفة و غير صادقة مُقارنة مثلاً بالقبلة التي انطبعت بين لورا و ستيف بعد عودتهما سوياً ، الأولى تحدث في لوكيشن داخلي و بإضاءة خافتة ليلية و الثانية تحدث في وضح النهار و في حديقة حيث لون الأشجار و صفاء الشمس .
هذا هو فيلم دوجلاس سيرك الأخير الذى قدمه في هوليود قبل تقاعده و عودته إلى بلده - ألمانيا - ، تحدث الرجل هنا عن كل شيء طالما أقلقه طوال مسيرته ؛ الحب ، الطموح ، الرغبات الشخصية ، المشاكل الأسرية و الاجتماعية ، العنصرية و نظرات المجتمع التي تتحكم دائماً في مصائر البشر ، مزيج الحياة ؛ الحياة التي يُقرّ الرجل أن السعادة مُكون أساسي فيها و لكنها - السعادة - تذهب و تختفي في ظهور صاعد هابط يُعطى الحياة و بالتالي الأفلام رونق لامع جذاب مُثير للعواطف قبل التساؤلات .
0 التعليقات :
إرسال تعليق