كتب : مصطفى الباجوري
التقييم : 5/5
بطولة : ميخائيل كوفمان
إخراج : دزيغا فرتوف (1929)
دائماً كنت أتصور أن السينما
منذ ظهورها في البدايات البعيدة مع الأخوين لوميير وغيرهم ، تخوض رحلتها في الوجود مثل الكائن
الحي الذي يكتشف نفسه وينمو إدراكه بالعالم الخارجي ويتطور يوماً بعد يوم ، وغاية
هذا التطور هو اكتشاف لغة حقيقية تمنح السينما خصوصيتها الفنية التي تميزها عن باقي
الفنون مثل الأدب والمسرح ، وتجعل لها قواعدها الخاصة المعتمدة على شاعرية الصورة والقادرة
على تسجيل الواقع والتعبير عنه بشكل مختلف ومتطور مستغلة في ذلك السحر الخفي و الطاقة
الكامنة في علاقة اللقطات المتتابعة ببعضها البعض وأثر ذلك التتابع على الاستقبال
الحسي والنفسي لدى المتلقي .
فيلم "رجل وكاميرا سينمائية"
هو فيلم للمخرج الروسي دزيغا فرتوف ، تم إنتاجه عام 1929 ، وفي بداية الفيلم يظهر
التنبيه الآتي : هذا الفيلم تجربة للغة التواصل السينمائي لأحداث
حقيقية ، بدون الحاجة لإستخدام حوار ، وبدون قصة ، وبدون إستخدام المسرح . هذا
العمل التجريبي يهدف إلى صنع لغة سينما عالمية حقيقية تعتمد على انفصالها المطلق
عن لغة المسرح والأدب . انتهى التنبيه .
يعرض الفيلم على مدار
68 دقيقة مجموعة من لقطات حقيقية تم تجمعيها من ست بكرات مُشغلة يومياً لتصور أحداث
حياتية عادية للغاية .. ثم يضعها دزيغا فرتوف في إطار بصري فريد لا يوجد فيه حبكة أو قصة معينة
أو حتى النصوص المكتوبة التي تمثل الحوار في الأفلام الصامتة ، فقط لقطات من
الحياة تسبح في فضاء من الموسيقى ، ويظهر في بعض الأحيان بين هذه اللقطات رجل يحمل
كاميرا يصور هنا وهناك هذه اللقطات المختلفة .
سيدة عجوز تبكي عند
أحد القبور ، امرأة تستيقظ من النوم ، شوارع خالية من المارة ، نوافذ محلات مغلقة
، الشوارع مرة أخرى بعد أن أصبحت ممتلئة بالناس ، حركة الترام المتداخلة مع الشوارع
والناس ، قطارات تتحرك مرة في اتجاه الشاشة ومرة مبتعدة عنها ، لقطات قريبة لوجه
امرأتين وسط زحام الأسواق ، عسكري المرور ، عامل يصعد أعلى مدخنة ، امرأة تصفف
شعرها ، دار سينما ، عاملات في مصانع الملابس ، جريدة حائط معلقة ، الشواطئ
الممتلئة بالرجال والنساء والأطفال ، امرأة تقطع شريط الفيلم في غرفة المونتاج ،
رجال يلعبون كرة القدم ، نساء يلعبن كرة السلة ، الرجل ذو الكاميرا فوق عربة يجرها
حصان لالتقاط وجوه المارة في الشوارع ، ملصق به صورة لينين على أحد الحوائط
، امرأة في لحظة ولادة حقيقة ، رجال في مسابقات للجري والوثب ، نساء تسبح في الماء
، الرجل ذو الكاميرا يصور عن قرب عامل في محجر تحت الأرض ، أسراب طيور تحط على أحد
الأسوار ، أبنية وعمارات وعمال في المناجم ، الرجل يثبت الكاميرا على الشاطئ
بجانبه ويجلس لاهيا بالمياه على أحد الشواطئ ، عربات الإسعاف والإطفاء ، عاملات في
السنترال ، رجل وامرأة يذهبان لتوقيع شهادة زواج ، الكاميرا تطل على أحد الشوارع من
أعلى ، وأخيرا جمهور في قاعة سينما يشاهد لقطات من الفيلم .
مثلما نرى لا يحكي
الفيلم شيئاً محدداً لكنه يعتمد على لغة أشبه في تجريدها بالموسيقى الأوركسترالية التي
تتداخل فيها اللقطات المختلفة كالنغمات التي تصدرها آلات كثيرة مختلفة لصنع نسيج هارموني متناغم ، تلك الحالة
المتداخلة وتطورها وتفاعلها هي الدراما في حد ذاتها ، ذلك التداعي الذكي للقطات
المتتابعة هو إيقاع الفيلم الخفي الذي يخلق حالة نفسية وبصرية تربط اللقطات ببعضها
.
يستمد الفيلم كذلك
إيقاعه من الموسيقى المصاحبة وقدرتها على التنوع من الترقب في المشاهد الأولى
لفريق الاوركسترا وهو على وشك بداية العزف إلى من التوتر في مشاهد الحوادث ، من
الهدوء والانسياب الحلمي في مشاهد السكون والشوارع الخالية والشواطئ ، إلى الإيقاع
السريع المرح في مشاهد الحركة المختلفة للناس والعمال و القطارات و الترامات وحركة
الكاميرا نفسها .
يعبر الفيلم بذكاء عن
السينما من حيث كونها تسجيل حقيقي للحياة بكل تفاصيلها المتشابكة والمتصارعة بأقصى استخدام للغة الصورة السينمائية
والمونتاج مثل القطع الحاد والمتداخل و تقسيم الشاشة إلى أجزاء ولقطات مختلفة ، وكذلك
إضافة مشاهد الرجل مع الكاميرا الذي يصور مختلف اللقطات بمختلف الطرق مرة واضعا
الكاميرا فوق مبنى و مرة محمولة على اليد و مرة فوق سيارة ؛هذه المشاهد للرجل مع
الكاميرا جعلت من عملية التصوير السينمائي نفسها جزء من الحياة تتفاعل مع باقي
أجزائها وتفاصيلها وتتطور مع تطور الواقع وتشتبك معه .
رجل و كاميرا سينمائية فيلم ثوري رائد عن
مفهوم خاص للغة السينما الوثائقية المونتاجية ، فيلم يمتلئ بالحياة ويخضع لها
ولمنطقها المتفاعل والمتطور ، و يعتبر السينما جزء لا ينفصل عن هذا التفاعل
والتطور .
0 التعليقات :
إرسال تعليق