كتب : عماد العذري
التقييم : 4.5/5
بطولة : سيسي سبيسك ، بيبر لوري
إخراج : برايان دي بالما (1976)
حقق برايان دي بالما
هذا الفيلم اقتباساً عن باكورة أعمال كاتب روايات الإثارة الشهير – لاحقاً – ستيفن كينغ ،
كان هذا عاشر أفلامه بعد مسيرةٍ من النجاحات المتوسطة ، الإستقبال الذي حظي به ثم
نيله ترشيحين غير اعتياديين للأوسكار قياساً لصنفه صنعا اسم برايان دي بالما
، تماماً كما فعل Mean Streets و The Godfather و Jaws مع بقية اللحى .
جزءٌ من نجاح الفيلم
جاء بالصدفة ، لم يكن كينغ كاتباً مشهوراً و لم يقتبسه أحدٌ للسينما من قبل ، سيسي سبيسك
نفسها كان مرشحةً لدورٍ آخر بناءً على الصورة التي صنعتها في تحفة تيرنس ماليك Badlands قبل عامين ، في موقع
التصوير أصر زوجها مصمم الإنتاج – الشهير بعد ذلك – جاك فيسك على أن
يجربها دي بالما في الدور الرئيسي ، منحها دي بالما الفرصة
ففعلت الأعاجيب على مدى 52 يوماً استهلكها تصوير الفيلم ، بعد ذلك أصبح اسم برايان دي بالما
و لغته السينمائية - التي لا تشبه شيئاً آخر – ماركةً مسجلةً في هوليوود .
نص لورانس كوهن -
الذي حل مكان كينغ الذي ترك السيناريو للتفرغ لروايةٍ جديدة - يحكي علينا
حكايةً عن كاري وايت ، المراهقة الخجولة ابنة السابعة عشرة التي تعيش
حياةً دراسيةً معقدةً في مدرسةٍ محليةٍ في نورث كارولينا ، تعاني في المدرسة من سخرية زميلاتها الدائمة
بسبب ما يشاع عن قدرتها الغريبة على تحريك الأشياء ، و تعاني في المنزل من تزمت و
قسوة والدتها المتعصبة دينياً ، الشيء الوحيد في حياتها الآن هو حفل التخرج
المرتقب حيث بوابتها لعالمٍ جديدٍ ينتظرها ، لكن حتى ذلك الشيء الجميل لا يكتمل
أبداً .
القيمة التي اكتسبها
هذا الفيلم تقوم برأيي على ثلاثة عناصر : الخصوصية التي تعامل بها النص مع روايةٍ
خوارقيةٍ كتبها ستيفن كينغ ليستخرج منها لورانس كوهن شيئاً
فريداً و مختلفاً يصبه في قالب فيلمٍ عن عالم المراهقة و طلاب المدارس الثانوية ،
و اللغة البصرية الفريدة التي كثف بها برايان دي بالما كل ما جربه سابقاً في أفلامه التسعة ليصنع
بصمته البصرية العظيمة التي ستطبع كلاسيكياته اللاحقة ، و بالتأكيد سيسي سبيسك .
منذ لحظات الفيلم
الأولى يعمل نص لورانس كوهن بتكثيفٍ عالٍ على تجنب الإهتمام بالبعد الخوارقي
الذي تقوم عليه الرواية ، يخلصها من ذلك مؤقتاً و يرسل ذلك البعد – الذي سيحرك
إثارة الفيلم لاحقاً – إلى خلفية الحدث البعيدة ، كي يقوم بإستدعائه في اللحظات
القليلة المناسبة قبل أن يجعله محور كل شيء ، ليتحقق ذلك لنص لورانس كوهن
دون أن يفقد الحكاية جاذبيتها عليه أن يستبدل ذلك البعد بشيء جذابٍ و مختلف و غير
اعتيادي ، و هذا تماماً ما يحققه من خلال عمله على خلق صورةٍ مختلفةٍ لأفلام
المدارس الثانوية و أفلام المراهقين عموماً ، نظرةٌ دقيقةٌ على الشكل الذي كانت
عليه هذه النوعية من الأفلام منتصف السبعينيات يجعلنا ندرك قيمة الصورة التي قدمها
هذا الفيلم لجمهوره حينها ، النص يكشف عن وجهٍ مغايرٍ لطلاب المدارس الثانوية ،
يذهب بنا الى عالمٍ أصبح اعتيادياً جداً من بعده ، عالمٍ مختلفٍ بصورةٍ كليةٍ عن
الصورة اللطيفة و الطاهرة التي صورت المدارس قبله ، مدرسة برايان دي بالما
هذه أشبه بمزيجٍ من السجن و مستشفى الأمراض العقلية ، ما تقوم به الطالبات مختلفٌ
جذرياً عن اللطافة و البراءة التي اعتادت السينما قبلها أن تطبع بها صورة طلاب
المدارس عموماً على قلتها في ذلك الوقت ، النص يستثمر ذلك الجزء من رواية ستيفن كينغ
ليلقي نظرة عن قرب على الشيء الحقيقي الذي يحصل وراء أسوار المدارس : هناك جيدٌ و
سيءٌ في كل شيء ، و المدرسة الثانوية ليست استثناءً ، عمل كوهن على هذا
الصعيد ساهم برأيي – رفقة أعمالٍ مهمةٍ أخرى جاءت بعده – في توفيرٍ مادةٍ دسمةٍ
للسينما أنتجت على إثر نجاح هذا الفيلم سلسلةً لم تتوقف منذ ذلك الحين من أفلام
المراهقين و أفلام المدارس الثانوية ، مجرد استذكار الستينيات و مطلع السبعينيات
ثم الطفرة التي حصلت في هذا النوع في الثمانينيات ثم التسعينيات يجعلنا ندرك قيمة الأثر
الذي خلفه فيلم برايان دي بالما على هذا الصعيد .
أعمق من ذلك هناك
شخصيةٌ محور يعمل عليها النص بحذر ضمن البيئة التي أحاطها بها في تأسيسه ليحرر
عقدتها من مجرد الإرتباط بالعالم المجنون الذي تعيشه في المدرسة و يجعله جزءاً من
مشكلتها و ليس كل مشكلتها ، على خلاف شخصيات أفلامٍ أخرى تنتمي إلى هذا الصنف ،
بطلة برايان دي بالما جميلة ، و خجولة ، و هادئة ، لا تثير المشاكل
، مشكلتها هي طبيعتها التي مارست والدتها المتزمتة تجاهها كل أنواع الكبت و
الإضطهاد لتجعلها خطيئةً قائمةً بذاتها ، ماضي والدتها ، علاقتها العاطفية التي
جعلتها تعتبر وجود كاري في حياتها خطيئةً يجب التكفير عنها ، يتظافر ليصنع مع
هستيريا الطالبات تجاهها ككائنٍ غريب شيئاً لا يطاق ، حصارٌ مورس على مراهقةٍ لم
ترتكب أي شيءٍ سوى أن تكون على طبيعتها ، عندما تكتشف دماء الحيض لأول مرة في حمام
المدرسة تمارس الطالبات هواياتهن معها قبل أن تتعامل والدتها مع الدم كعلامةٍ
للنجس ، و الدم تتبعه خطيئة ، و الخطيئة أنثى في نظر الأم ، في روح النص هناك شكلٌ
مختلفٌ من الميلودراما ، ميلودراما ممزوجةٌ برعبٍ متحررٍ بشكلٍ كلي من صوره
التقليدية و غير مرتبطٍ في روحه بالجزء الخوارقي قدر ارتباطه بالطبيعة غير المروضة
للإنسان ، لا يجعلها النص إطلاقاً تبدو كميلودراما بالرغم من توفر أدواتها الأكثر
بدائية : شخصيةٌ أنثويةٌ في المركز ، و الكثير من النبذ و التطرف الأسري و
الاجتماعي في المحيط ، وسط كل ذلك تحصل كاري على متنفسها ، تنجذب تجاه تومي و تشعر للمرة
الأولى أن طبيعتها يمكن أن تجد لها متنفساً لدى شخصٍ لا يحاول ترويضها أو السخرية
منها ، يلتقط برايان دي بالما تومي في الصف ببلاغةٍ بصرية ، يضعه في مركز
الصورة و يجعل كاري على حوافها بعدما كانت محور كل شيءٍ مطلع الفيلم ، و ما أن تبدأ كاري بالشعور بأن حياتها بدأت تأخذ منحىً مختلفاً حتى تدرك أن
الإنسان لا يمكن إلا أن يكون نفسه ، النص يتحرى في حكايته المدى الذي يمكن أن
يبلغه المرء من خلال تجاهل طبيعته و إنكارها فقط من أجل أن يحيا حياةً طبيعية ، كاري حاولت
ذلك لسنوات ، كان أذى الناس اليومي لها شيئاً لا يطاق ، احتملته من أجل أن تعيش
حياةً طبيعية ، حتى و هي تعاقبهم لاحقاً كانت طبيعتها هي من تعاقبهم ، جانبها الفج
، الغريزي ، الذي لطالما أنكرته و هربت منه ، و عقابها هنا يشمل الأبرياء و
المذنبين على السواء ، طاقةٌ سلبيةٌ لا تبقي و لا تذر ، و عندما ينتهي كل شيء ،
نراها تسير في ذهولٍ نحو منزلها ، تضع نفسها في الحمام ، ترتمي هناك لتغسل دماء
الحفلة ، كائنٌ آخر – بصرياً و ضمنياً – عن ذلك الذي عرفناه مطلع الفيلم .
دي بالما يتفهم كل ذلك في
النص ، من حسن حظه ربما انه وجد في النص المادة الخام الأكثر مثالية للتعبير عن
لغته السينمائية التي أصبحت علامةً مسجلةً بإسمه : الموسيقى ، السلوموشن ، الضوء
الأحمر ، الشاشات المقسومة ، ثنائية الحركة العرضية / الحركة الأمامية للكاميرا ،
الإكستريم كلوز آب ، الإضاءة خلف العنصر ، كل ذلك وجد طريقه ليطبع سينما دي بالما
مع Sisters و Phantom of the Opera أولاً قبل أن يجعله هذا الفيلم بصمةً حقيقيةً للمعلم ، ذروة ذلك مشهد
الحفلة ، أشهر حفلةٍ مدرسيةٍ وضعها مخرجٌ على شريطٍ سينمائي و أكثرها خلوداً على
الإطلاق ، المشهد الذي صوره دي بالما في أسبوعين كاملين و تظافرت فيها جهوده و جهود مدير
التصوير ماريو توزي و المونتير بول هيرش و الموسيقار بينو دوناغيو مع
أداءٍ عظيم من سيسي سبيسك لصناعة نتيجةٍ لا تنسى ، في هذا المشهد الذي يفرغ
فيه دي بالما كل مفاتيح لغته السينمائية دفعةً واحدة يرينا الرجل - من
خلال كمية الشحن النفسي الذي رافق بناء الشخصية و نوعية المنزل / السجن الذي برع
في تصويره مدعوماً بأداءٍ بارعٍ من بيبر لوري - كحاضنةٍ لحياة كاري - كم الغضب و
العنف الذي يمكن أن يقودنا إليه الوجه الآخر الذي لطالما أنكرناه ، دي بالما يحب
أن يرينا ذلك على الشاشة كي يحفره في ذاكرتنا بدلاً من الإعتماد على شعورٍ نشكله
تجاهه ، يبدأ المشهد بالكثير من الرومانسية ، الإضاءة تنير وجه كاري ، تراقص تومي ، تدور
الكاميرا حولهما كثيراً ، ينهضان عندما يتوجان ملكاً و ملكة ، يسيران بالسلوموشن ،
قبل أن ينقلب كل شيء ، مزاوجة دي بالما بين ذهول كاري بدماء الحيض مطلع الفيلم و ذهولها بدماء الخنزير التي
أفسدت فرحتها في الذروة فعالةٌ جداً ، الدم مجدداً كمدخلٍ للخطيئة ، الدم – و لا
شيء سواه – هو استفزازها الحقيقي ، الدم على خشبة المسرح ، كاميرا توزي و مونتاج
هيرش تحت إدارة دي بالما يعبران دائماً عن حالة كاري ، يخنق الكادر و
يحرره بما يتناسب معها ، دائماً لا يوجد لدى دي بالما شيءٌ خارج
الكادر ، مفاتيح إثارته كلها موضوعةٌ أمام مشاهده ، لا يستفز خيال المشاهد بل
يتجاوب مع احتياجاته طالما أنه هو من وفر المادة الخام لتلك الإثارة ، عندما يتأرجح
دلو الدم فوق مسرح كاري لا تنتظر شيئاً من دي بالما سوى أن يوقعه
فوق رأسها مهما تأخر ذلك ، يغير ايقاع شريط الصوت كليةً للتعبير عن الحد الفاصل
بين الجريمة و العقاب ، يقسم دي بالما الشاشة و يحرك قطعةً فوق أخرى في بلاغةٌ بصريةٌ
حقيقية و كأنما هو نفسه لا يعلم على وجه الدقة أيهما سيثيرنا أكثر : ما تفعله كاري بالآخرين
، أم الملامح التي ترتسم على وجهها أثناء قيامها بذلك ، بالنتيجة كلا القسمين يقولان
الكثير ، سيسي سبيسك طوال العمل انعزلت بشكلٍ كلي عن بقية الطاقم كي
تأسر شعور العزلة الذي تعيشه كاري ، و في المشهد أصرت على أن تكون دماء الخنزير حقيقية ، دي بالما رفض ذلك بقوة ، مع ذلك نامت سبيسك بملابسها
المدماة لثلاثة أيامٍ أثناء تصوير تلك المتوالية ، سبيسك إنتقلت بكاري في
مشهدٍ واحد من الكائن اللطيف البريء الذي نتعاطف معه جميعاً ، إلى الوحش الذي لا
يعرف هو ذاته إلى أين يمضي ، ذات الجمال ، ذات البراءة ، مرة بسحنة الوداعة ، و
مرةً بسحنة الغضب ، عندما تقف هناك لتعاقبهم ، تضفي على كاري جلالاً و هيبةً
لا يمكن وصفها ، مغمورةً برهبةٍ لا يستطيع المشاهد تجاهلها ، واحدٌ من ندرةٍ من
الأدوار التي رشحت لجائزة أوسكار في صنفٍ كهذا .
رعب هذا الفيلم رعبٌ
أصيلٌ ، تشاهده و تستمتع به كل مرة و تدرك مع تتالي مشاهداتك السينمائية أنه لا
يشبه أي شيءٍ آخر جاء قبله ، ربما يبدو طبيعياً من أجل ذلك أن يكون واحداً من
مفضلات كوانتن تارانتينو العشرة ، نجاح الفيلم هو من صنع شهرة ستيفن كينغ و
ليس العكس ، اليوم أصبح واحداً من أفضل ما اقتبس عن أدب الرجل رفقة The Shining و The Shawshank Redemption ، كلاسيكيةٌ عظيمة عن حجم الوحش الذي يخلقه القمع العاطفي الشعوري
للإنسان ، و عن عبثية الهروب من طبيعتنا مهما اعتقدنا أننا نجحنا في ذلك .
0 التعليقات :
إرسال تعليق