كتب : عماد العذري
التقييم : 4.5/5
بطولة : جوني ديب , هيلينا بونهام
كارتر , آلن ريكمان
إخراج : تيم بيرتن (2007)
لفترةٍ طويلةٍ من الزمن كان هذا الفيلم
حلماً من أحلام تيم بيرتن ، فتن في شبابه بمسرحية ستيفن سوندهايم ذائعة
الصيت و كان يحلم فيما لو أصبح مخرجاً سينمائياً ذات يوم أن يمنحها اقتباساً
سينمائياً يليق بها ، و عندما سنحت له الفرصة لم يجد القبول الكافي من ستيفن سوندهايم
في فترةٍ اقترب فيها سام مينديس من التصدي للعمل السينمائي ، لكن بيرتن سرعان
ما استطاع أن يصنع حالةً من تقارب وجهات النظر مع سوندهايم عقب انشغال سام مينديس
بفيلم Jarehead
فحصل على ما أراد ، قال له ستيفن سوندهايم بعد
ذلك (كل ما أطمح إليه هو ممثل يغني , و ليس مغنياً يمثل) ، تيم بيرتن
منحه جوني ديب ، في ذروة نجوميته .
اللقاء السادس بين تيم بيرتن و جوني ديب هو عملٌ
غنائيٌ فريدٌ من نوعه , يحقق فيه بيرتن معادلةً صعبةً للغاية و لا تشبه أي شيءٍ آخر تربط الصورة
الإفتراضية (المبهجة) للفيلم الغنائي ، و الصورة الدموية (الكئيبة)
لأفلام الجريمة ، معادلة تخلق ربما الفيلم الموسيقي الأكثر دمويةً في تاريخ السينما كله ، حكايةٌ عن
الحلاق المغدور بينجامين باركر الذي سرقت منه زوجته و إبنته و رمي في السجن لخمسة
عشر عاماً , و الذي يعود إلى شارع فليت في لندن تحت إسم سويني تود ليفتتح صالونه الجديد , الصالون الذي تميز عن غيره بأن
كل من زاره لم يعد منه بعد ذلك , كل هذا بمساعدة جهنمية من عشيقته و زوجته الجديدة
السيدة لوفيت صانعة الفطائر الشيطانية التي تصنع من لحم الضحايا
ألذ الفطائر في لندن .
في ظاهر الحكاية هناك الكثير من الألم ،
ألمٌ لا يصلنا مباشرةً لكنه سرعان ما يتسلل ليطبع كل شيءٍ بالسواد ، منذ لقطته الأولى
بل و منذ تتراته الإفتتاحية يوجه تيم بيرتن مشاهده نحو لندن , مسرح الأحداث , تأسيس للعلاقة المطلوبة بين المشاهد و ما
يشاهده أو بمعنى آخر ما يجب عليه أن يشاهده , يخلق طبقة سوادٍ إضافية لطبقة السواد
التي تلف قلب شخصيته الرئيسية التي تعود إلى مدينتها بعد 15 عاماً باحثةُ عن
انتقامٍ نراه في عينيها قبل أن تحكي حكايتها لنا ، يبلغ تيم بيرتن بالمكان
الأثر الأقصى للتعبير قبل أن يحكي لنا أي شيء ، يعمد بيرتن لتقديم لندن كما
يفترض أن تبدو في عيني رجل كره إنحطاطها و عفنها ، صورةٌ سوداء من لندن ديكنزية
يخدمها بيرتن بإسراف من خلال عملٍ عظيم على صعيد التصوير و أعظم على
صعيد الإخراج الفني الذي يجعلها تبدو خارجةً من حكايةٍ مرعبةٍ في كتابٍ قديم ، في
الخلفية البعيدة للصورة هناك تباينٌ طبقي ، و فقرٌ ، و بطالةٌ ، و سحقٌ اجتماعي ، هناك
الأزقة , و المياه الراكدة , و العفن , و الجرذان , صورة صنعت من لندن مرتعاً للقاذورات
و مكاناً للرذيلة كما يريد سويني تود أن يراها ، تعبيرٌ بصريٌ لطالما أجاده بيرتن على
الدوام : التمهيد لشخصياته من خلال انعكاسات الصورة قبل الحفر في الشخصية ، شيءٌ لمسناه
بوضوح في Edward Scissorhands
و The Night Before Christmas
مع هنري سيليك ، و بالتأكيد في Sleepy Hollow و The Corpse Bride و غيرها .
تحت القشرة البصرية هناك طبقةٌ سوداء أخرى
تغلف قلب شخصيته الرئيسية ، طبقةٌ نستشفها من خلال أغنية على ظهر سفينة مطلع
الفيلم , ثم لا نلبث نلتقطها لاحقاً في كل تصرفاتها ، الطبقة التي تغلف القلب دون
ارادتنا و تحجبه عن ادراك أنها أصبحت طبقتين و ثلاثاً و ربما أربع لأن الأمر
بحاجةٍ فقط لطبقةٍ سوداء واحدة كي يفقد المرء احساسه بما سواها ، و ما أن يتحقق
ذلك حتى يتغير كل شيءٍ للأبد ، هذا الشعور يصلنا حرفياً مع سويني تود
الذي بالرغم من ألمه الداخلي و معاناته لا يخفي روحاً شيطانيةً استحوذت عليه ،
الرجل الذي كان لطيفاً و ساذجاً و تحول إلى وحشٍ بالمعنى الحقيقي للكلمة ، و هو
معنىً سرعان ما تعززه الحكاية من خلال ظهور السيدة لوفيت ، صانعة
الفطائر التي تعاني كساد مهنتها ، ما يجمع سويني تود بالسيدة لوفيت هو مزيجٌ من الحب و الخواء و الحقد و
الحزن و الألم و المصلحة و البحث عن واجهةٍ إجتماعيةٍ لبعضهما البعض ، لا يستطيع
المشاهد إدراك أي من تلك الأسباب هو ما يحرك علاقتهما ببعضهما و هذا يحسب للنص و
يدعم بإمتياز الصورة الشيطانية التي تبدوان عليها ، صورةٌ منبع وجودها هو الأثر
الأسود الذي يصبغ به مسعى الإنتقام حياتهما إلى الدرجة التي تصبح معها محاولة
الهروب منه هي الجنون ذاته ، منذ عودة بينجامين باركر إلى لندن لا نشعر بإكتراثه الحقيقي لمصير زوجته
أو ابنته حتى عندما يعلم عن مكانها ، يصبح الحقد تجاه مرتكب الخطيئة أكبر بكثير من
محاولة تصحيحها ، و تصبح رغبة الإنتقام تجاه حياةٍ سلبت أكبر بكثير من رغبة الحفاظ
على ما تبقى منها ، و هي الخلاصة التي يخلص لها النص من خلال تقديم شخصية سويني تود عندما يصل
بها إلى ذروةٍ ترسم من خلال حقدها المصير الأسود لزوجة بنجامين و ابنته على
يد قلب سويني تود الذي أعماه كل شيء .
فوق ذلك ينتصر بيرتن لنص لوغان و
لمسرحية سوندهايم الموسيقية ، هذا الفيلم لا يخرجه مخرجٌ اعتيادي ، لأن
محاولة ضبط إيقاع فيلمٍ موسيقي فيه كل هذا الكم من الدماء هي عمليةٌ يستحق انجازها
رفع القبعة ، بيرتن يلعب بحرفية في مساحةٍ ضيقةٍ للغاية تربط (الفيلم
الغنائي) بـ (الفيلم الدموي) ، لا يحاول بهرجة الأول فيقلل من قيمة الثاني ، و لا
يحاول الإسراف في الثاني و التمحور حوله فيجعل من الأول مجرد اضافةٍ ديكورية ،
اللعب في هذه المساحة يبدأ من خلق سوداوية و كآبة البيئة ، يتقدم من خلال عملٍ
مدروسٍ جداً على الماكياج يجعل من شخصياته أشبه بشخصياتٍ باهتةٍ عادت من الموت أو
تقاد إليه ، ثم يستمر من خلال استخدام اغاني الفيلم كوسيلةٍ لإرضاء المشاهد و
الهروب به ، ليس من خلال الإبتعاد عن الحدث كي تبدو مجرد قطعةٍ إضافية لا قيمة لها
، بل من خلال استثمارها في سرد الحدث و خلفياته و مآلاته ، أغانيه تتنوع بصورةٍ
ملفتة ، تعلو و تهبط بمقدار ما تعلو النبرة الانتقامية و تهبط ، يشعرك بقيمة أن
ينتمي هذا الفيلم للأفلام الغنائية ، تزاوجه بين الحوار و الغناء هو النوع الذي
أحبه ، لكل منهما شخصيته و حضوره المستقل ، الحوار بمفرده مشبع ، و الأغاني
بمفردها فعالةٌ و مؤثرة ، و في الصورة الكبيرة : لا وجود لإستعراضات هنا , مسرح أغاني
هذا العمل ضيقٌ و محدود ، حتى عندما يؤدي سويني تود احدى أغانيه في الشارع نكتشف
أنه يؤديها في غرفته , جميع أغانيه لا تقدم الكثير للبصر كي لا تهرب به من قسوة
الحكاية و هذا التضاد الحادث بين (الغنائية) و (الدموية) و محاولة بيرتن الحفاظ على التوازن (شبه المستحيل) بينهما قد يولد لدى
البعض الثغرة الحقيقية للفيلم إن جازت تسميتها كذلك : العاطفة , هذا فيلم عديم
العاطفة , أسود كقلب سويني تود ذاته , لك أن تندمج و تساق بسهولة مع الثنائي الجديد
الذي يتشكل بين تود و لوفيت لكنك لا تسأل نفسك عن عمق الدوافع التي تحركهم و طبيعتها
البشرية ، دوافع يقفز عليها بيرتن من خلال تقديمه المبدئي لشخصية لوفيت : عانس أقرب للمجانين
, أكل الدهر عليها و شرب , تخبز أسوأ الفطائر في لندن و لا يفكر أحد بالإقتراب من متجرها
, هذا الإنعدام العاطفي قد يقتل الفيلم لدى البعض و قد يقلل قيمته لدى البعض الآخر
، و هو لا يأتي صدفةً أو دون توجيه ، نراه يتكرر مجدداً مع ثنائية جوانا و أنتوني التي بالرغم
من تمكن بناءها و جودته تفقد تعاطف المشاهد و تواصله معها , بيرتن صبغ فيلمه
بسواد شديد جعلته بجدارة (أكثر الأفلام الموسيقية قسوة و دموية على الإطلاق) , و رصعه بمجموعة
من الأغاني التي تضرب في صميم الأثر العميق الذي تحدثه الرغبة الفتاكة بالإنتقام
أخص منها أغنيتي My Friends و Johanna و Pretty Women و على الأخص A Little Priest التي يتبادل فيها الزوجان السفاحان الحديث
عن مذاق الفطائر الآدمية , يتوج ذاك بالتأكيد أداءٌ حيويٌ فعالٌ من هيلينا بونهام كارتر
يمنح شخصية السيدة لوفيت نبرة كوميدية منخفضةً و لذيذةً جداً , و أداء عظيم
من جوني ديب في دور الحلاق المغدور : إنطلاقه من خلفيته الموسيقية
، احساسه العالي بالأغاني بالنظر لشخصٍ يغني للمرة الأولى على الشاشة ، غضبه الذي
يبقى تحت السطح في أكثر حالاته هدوءاً ، و النشوة التي يصدح بها وجهه و هو يهتف بإسم
(بينجامين باركر) محققاً إنتقامه الأخير , كل تلك الجزئيات
تجعله عملاً غنائياً للبقاء في الذاكرة .
التقييم من 10 : 9
0 التعليقات :
إرسال تعليق