كتب : خالد إبراهيم
التقييم : 4.5/5
بطولة : جون مارلي ، جينا رولاندز
إخراج : جون كازافيتيس (1968)
"كفنان ، أشعر أن
علينا تجربة العديد من الأمور ، لكن أولاً علينا أن نملك جرأة الفشل ، لابد أن
نسعى للمغامرة بكل شيء ، حتى نقوم بالتعبير عن أنفسنا" - كازافيتيس
سينما كازافيتيس
سينما كبيرة ومخيفة ، أفلام يمكن للمشاهد أن يتركها لحين امتلاك الرغبة والجرأة الحقيقية
لاكتشاف شيء عميق بخصوص نفسه ، "كل شيء هو اختيار ، كصانع أفلام .. ككاتب .. كمصور" يشتهر
كازافيتيس بالارتجال ، لكن الارتجال في فيلمه (وجوه) ارتجال
في التمثيل ، وليس ارتجالاً في النص ، رغم أن النص يبدو منطوقاً للتو ، ويصعب
تصديق أن الممثلين على علم مسبق بالحوار .
كازافيتيس لا يخشى شيئاً ،
أفلامه تحمل الكثير من الصدق بدرجة مؤلمة ، مثل محاولات الشخصيات اليائسة لتبديد
لحظات الصمت المهيمنة لعدم وجود ما يُقال ، الشعور بالإحراج لدى قول شيء يفتقر إلى
الذكاء أو شيء كاشف لضعف النفس .
يُغلَّف كازافيتيس
فيلمه بطابع وثائقي أحياناً ، لكن يكسبه – في الأغلب – طابع الفيلم المنزلي ، الكاميرا
المحمولة حاولت باستمرار تضييق الخناق على وجوه الشخصيات ، حتى لا تترك فرصة
للتملص ، تلتقط كل ما يمكنها إلتقاطه ، خاصة في لحظات الكشف والفضح ، لقطات شديدة
القرب شديدة الضراوة ، يُنعش ابتكار (آلام جان دارك) لدراير ، لقطات خام تدرس الوجوه وتترصد ، لقطات لا هوليوودية ،
فلا يوجد مخرج آخر قد تراوده نفسه بالاقتراب الشديد من وجه جون مارلي الصارم المغطى
بالبثور ، والأسوأ أن اللقطات تستمر في الظهور ! ، لا حاجز بين الواقع والخيال ، يبدو
الواقع حاضر بصورة مستفزة ، وهذا هو الهدف ، لا مبالغة أو رموز ذكية أو تجميل لأي
عنصر ، هذا الفيلم برّيّ خام حتى يومنا هذا ، وأعتقد أنه سيستمر كذلك للأبد .
كازافيتيس يهدف دوماً إلى جعل
المشاهد يتعلم كيفية التعبير عن نفسه بحرية ، بغض النظر عن آراء الآخرين ، تلك
مهمة هي الأصعب في الحياة بالنسبة للرجل ، "أن تقول ما أنت عليه ، ليس
ما تود أن تكون ، ليس ما عليك أن تكون ، فقط قُلْ ما يُعبِّر عنك وهذا جيد كفاية"
، على أي حال الوجوه قالت كل شيء ، خلال رحلة عاصفة للمشاعر وتكشُّف حقيقي لها ،
شخصيات الفيلم تشعر باليأس الشديد ، تعيش على الحافة ، علاقات مزيفة ، كذب على
النفس ، وعلى الآخرين ، ما يبرع فيه كازافيتيس أكثر من غيره هو جعل المشاهد يزدري حقاً تلك
الأكاذيب ، "قد نستطيع تغيير حياة الأشخاص في ساعتين" .
شخصيات الفيلم –
وأغلب شخصيات كازافيتيس بوجه عام – تبحث عن من يمكن الوثوق بهم ، حتى يأمن
الفرد ليكون على طبيعته وفطرته ، فيصبح نفسه بالكامل ، فلا يجدون غضاضة مثلاً من
الذهاب إلى نادي ليلي يُسمَّى (نادي الخاسرون) ! ، "الأصدقاء لا يمكنهم أن يصبحوا جادين" كما أن كازافيتيس لا
يذهب إلى تلك الشخصيات إلا عندما تقرر رفض مواصلة تلك الحياة البائسة ، رفض الحلول
الوسط ، تقرر الشخصيات فعل المستحيل للوقوع في الحب أو البحث عن السعادة ، مهما
طلب الأمر من تضحيات أو امتهان محتمل لتلك الشخصيات ، لتجد – غالباً – في النهاية
أنه لا توجد حلول حقاً ، "لا أحد لديه الوقت حتى يكون غير حصين بالنسبة للآخر" ،
تواضع كازافيتيس وأمانته في كشف الطبيعة البشرية كانت – في رأيي –
السبب لأن تَكشف تلك الطبيعة نفسها له ، بينما حاول الآخرون إجبارها – أحياناً بلا
جدوى – على الظهور .
الممثلون كانوا
مبهرين حقاً ، لا يوجد أقل من ممتاز بينهم ، قد يكون السبب هو مقدار الارتجال
المسموح به ، أو أنهم في الفيلم بدافع الحب وليس المال ، كان مسموح للممثلين التحرك
بكل أريحية وحرية حيث لم يهتم كازافيتيس بالضوء بقدر ما رغب في إطلاق عنان ممثليه ، لين كارلين
مثلاً – سكرتيرة روبرت ألتمان سابقاً – كانت تقوم بالتمثيل لأول مرة ، لكنها
صنعت التاريخ لنفسها ، كازافيتيس احتاج أحياناً لصفع ممثلاته حتى يحصل على الأثر
المطلوب ، "أنا رجل عصابات ، إن أردتُ شيئاً سأحصل عليه" ، قد يبدو
هذا قاسياً لكن ما يؤكده الجميع أن كازافيتيس يهتم بالعاملين معه أكثر من الفيلم ، وربما من
السينما ذاتها .
أهمية كازافيتيس
بالنسبة للأفلام المستقلة هائلة ، أهمية لا تقتصر على الصناعة – أو بالأحرى
الصناعة خارج الصناعة – لكنها تمتد لمشاهد لم يتعرض لتلك الحميمية من قبل بينه
وبين فيلم ، تلك الجرأة ، وهذا الإصرار ، صوَّر كازافيتيس الفيلم –
بتمويل ذاتي – في منزله الشخصي ، ومكث لصنعه حوالي ثلاث سنوات ، على الرغم أنه كان
مجبراً على الجودة الضعيفة التي خرج بها الفيلم ، لكن تلك الجودة ساهمت في تأطير
ضبابية حياة الشخصيات ومصيرها ، وضع الكاميرا المُهمَل ولا اصطناعية اللقطات جعل
الصورة شديدة الفيزيائية ، هو فيلم يتطلب مقدار لا بأس به من التفهم ، حيث يكون
شرب الكحول خلفية وليس جبهة مواجهة .
القطع السريع كان
موازي للانتقال السريع بين الضحك والبكاء لدى الشخصيات ، كل شيء يوحي بالجنون في
عالم أكثر جنوناً ، يلعب كازافيتيس على التطرف بين النقيضين (الحب والكره – السعادة والبؤس
– الشباب والكهولة) ، كما يجعل الليل قنبلة يبدو إنفجارها هو
الشيء الصحيح الوحيد .
الوجوه ليست بالضرورة
مرادف للصدق عند كازافيتيس ، فهي أقنعة يحاول الرجل انتزاعها بعنف ، الخيانة
الزوجية كقناع لأزمة منتصف العمر بكل نزعاتها التأكيدية ، اصطناع الضحك والنكات
السيئة كقناع لشخصيات خرقاء اجتماعياً ، مناقشة أمور الآخرين كقناع لعدم التواصل
بين الأزواج ، احتقار المرأة كقناع للتنافس الذكوري .
كازافيتيس يرى أن المشاهد لا
يريد رؤية شيء جديد أو مختلف ، حتى بعد أن يرى الفيلم المختلف يظل غاضباً من
المخرج اللعين ، لكن بعد عدد من السنوات يظل الفيلم عالقاً في ذاكرة المشاهد
الغاضب ، وهذا هو الفن بصورته الأبهى ، ربما – ببعض تعصب – بصورته الوحيدة ، الشيء
الأكثر تقديراً بالنسبة لي عند كازافيتيس هو رؤيته الفن كمتعة ، وأن المتعة بدورها تحتاج
إعادة تعريف .
"فيلم (وجوه) أصبح أكثر من فيلم ، أصبح طريقة للعيش ، فيلم ضد السلطات
والقوى التي تمنع الناس من التعبير عن أنفسهم بالطريقة التي يريدون" -
كازافيتيس
0 التعليقات :
إرسال تعليق