كتب : أحمد أبو السعود
التقييم : 4/5
بطولة : كلاوس كينسكي ، إيفا ماتز
إخراج : فيرنر هيرتسوغ (1979)
"
الموت ينبغي أن يكون ثمنه
رخيصاً ، و لكن ليس مجاناً "
فلنتأمل
افتتاحية الفيلم ؛ لقطات جميلة للمدينة التي تدور فيها الأحداث ؛ شوارعها و بيوتها
، على أنغام موسيقى هادئة و عذبة ، ثم مع تغير تون الموسيقى إلى إيقاع عسكري واضح يظهر
البطل يؤدى تدريباته المعتادة كجندي متواضع لا حيلة له ، يبدو على ملامحه - منذ الوهلة
الأولى - أنه يحتمل أكثر مما ينبغي و مع ذلك فهو يفعل ما يؤمر به و ما يُجبر عليه .
فويزيك ؛ تخضع
كل مفردات حياته من تصرفات و ردود أفعال و مشاعر إلى قوانين حياتية تفرض عليه حالة
من الحصار و الاختناق ، تلك الحالة التي ينتج عنها مساحة واسعة جداً من الهلاوس تزيد
من حدة ذلك الحصار ، فويزيك شخص
مغلوب على أمره ، قدراته العقلية محدودة ، و لكى يسد حاجة أسرته يُخضع نفسه لمجموعة
من الأعمال المُهينة كاشتراكه مثلاً في تجربة طبية تفرض عليه ألا يأكل غير البازلاء
، بناء الشخصية واضح و لا يحتمل تأويلات كثيرة ، شُحنة الهم التي تعتري الشخصية لا
تترك له مُتنفساً يحتاجه أي شخص ، أول مشهد هلوسة له يأتي سريعاً بعد مشهده مع الكابتن
الذى يعمل حلاقاً له ، يخلق النص مساحة التنفس تلك في صورة هلاوس يُفرغ فيها فويزيك شحنة
الغضب و القلق التي لا تتركه ، جمال النص هو في تلك الجزئية بالتحديد ، اقتران الهلاوس
بتلك الأعمال التي تفرض عليه حالة الاختناق الشديدة التي ستدمر أول ما تدمر الشيء الأكثر
صدقاً فى حياة فويزيك .
تصاعد
حدة الهلاوس تلك يصاحبها فى المقابل انهيار الكيان الأسري الذى يحاول فويزيك جاهداً
أن يحافظ عليه ، انهيار يحدث على غفلة منه أو ربما لمحدودية قدراته العقلية فهو لا
يلاحظه إلا مؤخراً ، فتكون استجابته نابعة بالأساس من الجانب المُظلم الذى خلقته تلك
الهلاوس في روح فويزيك ، فهو
في النهاية شخص بريء و مسالم و نقي ، حتى و إن لم يأتي على لسان أحد في الفيلم أنه
كذلك ، النص هو دراسة سلوكية نفسية جميلة عن تحكم الأنظمة و غشوميتها فى التعامل مع
أفرادها ، الخناق و الحصار و اللامبالاة التي يتعاملون بها مع هؤلاء الأفراد .
هيرزوج يتعامل
مع النص بهدوء شديد ، اللقطات طويلة ، ثابتة ، لا يوجد ضجيج لا على شريط الصوت و لا
على شريط الصورة ، هذا الهدوء الواضح في الصورة أتاح للنص أن يرسم حالة الاختناق تلك
بكل براعة ، في اللقطة التي يخرج فيها فويزيك من المتجر
الذى اشترى منه للتو سكيناً ، اللقطة واسعة يجرى فيها فويزيك في شارع
واسع كأن شيئاً يطارده متفلتاً يميناً و يساراً ، و يبدو أنه يجرى إلى طريق مسدود ،
لقطات الكلوز على وجه البطل مثلاً قليلة ، فراغات الصورة أو ازدحامها التي تحيط بالبطل
ترسم حالة الاختناق و الحصار ببراعة ليبدو البطل في جميع لقطاته تقريباً أنه مسجون
أو مُحاصر ، مشاهد الجريمة و توابعها يوزع هيرزوج بكل
براعة لقطاته ما بين المتوسطة و العامة للحفاظ على حالة معينة و وتر معين تلعب عليه
الأحداث طوال الفيلم ، و في اللقطة التي يذهب فيها إلى البار ، يُشكل هيرزوج لقطته
- للمرة الأولى فى الفيلم بذلك الوضوح و المُباشرة - للتعبير عن حالة الاختناق و الحصار
عن طريق إحاطة البطل بكل أصناف البشر الموجودين فى البار و بعدها لقطة طويلة واسعة
لانهيار البطل نفسه و ابتلاعه بالهلاوس التى تصل إلى ذروتها فى هذا المشهد .
أسلوب
هيرزوج هذا
كان واضحاً جداً و عظيماً جداً في فيلمه الأشهر Aguirre The Wrath Of
God حيث قلة لقطات الكلوز لبطل فيلمه على الرغم
من العواصف النفسية التي تعتمل بداخله ، مغامرة بالتأكيد من هيرزوج ، و
لو كانت مغامرة غير محسوبة لفسد الفيلم بأكمله ، رهان هيرزوج هنا
هو كلاوس كينسكى ، عيون
هذا الممثل تقوم بالمهمة كاملة ، تستحوذ على الشاشة و تلتهمها التهاماً سواء كانت اللقطة
متوسطة أو حتى عامة ، بنظرة واحدة في أول ظهور له سترى تلقائياً ما يدور داخل تلك الشخصية
، و لا يكتفى فقط بذلك بل هناك تدعيم عظيم من ملامح وجهه و العرق النافر في جبينه خصوصاً
، و أداءٌ حركي و جسدي عظيم .
0 التعليقات :
إرسال تعليق