كتب : خالد إبراهيم
التقييم : 4/5
بطولة : إنغريد تولين ، غونار بيورنشتراند
إخراج : إنغمار بيرغمان (1963)
"يسألني الناس عن
أغراض أفلامي .. أهدافي ، هو سؤال صعب وخطير ، في المعتاد أعطي إجابة مراوغة :
أحاول قول الحقيقة عن الإنسان .. الحقيقة كما أراها" – بيرجمان
قد يظن المشاهد أن فيلم
بيرجمان يفتقد التناسق ، حيث أن شخصيات فيلم (ضوء الشتاء)
لا يوجد ترابط بين حواراتهم ، لكن من يعرف أفلام السويدي الكبير يدرك بأن إنعدام
الترابط – وأي شيء آخر داخل الفيلم البيرجماني – هو أداة لدى مخرجه وليست نتيجة ،
شخصيات الفيلم بالفعل لا يربط بينهم شيء سوى معاناتهم من إنعدام التواصل ، في
بداية الفيلم علينا أن نرى القس يعظ بينما ظهره لرواد الكنيسة القليلين ، يمنحهم
الخبر والنبيذ مُذكِّراً إياهم أنهم يأكلون جسد المسيح ويشربون دمه ، في عينيه لوم
وبعض غضب ، يستمر المشهد الطويل بينما عازف الموسيقى في الكنيسة يشعر بالملل ، كل
شيء داخل الكنيسة يغرقه الروتين السقيم .
القس لا يشعر بتعاطف
تجاه الناس ، ولا يشعر به كذلك تجاه الفتاة مارتا ، حبيبته السابقة ، تكتب الفتاة
خطاباً إلى القس ، يكسر به بيرجمان الجدار الرابع ، ويحقق الاتصال المباشر الوحيد ربما خلال فيلمه
، قد أصبح بيرجمان متذمراً من عدم قدرتهم على التواصل ، فقرر أن يريهم
كيف يتم ! ، تخاطبنا مارثا و تخاطب القس بينما تنظر مباشرة في اتجاه الكاميرا ، تخبره
كيف راعه منظر تقرحات يدها ، بما إننا في ضيافة فيلم لـ(بيرجمان) فعلينا أن
نتعامل مع كل شيء من منظور شكلي ومنظور رمزي موازي له ، تقرحات يد الفتاة تماثل
تقرحات روحها المعذبة ، كما أنها قد ترمز لما هو أكثر خطورة .
تلجأ إلى القس زوجة بَحّار
يشعر باليأس بعد أن علم بسعي الصين لإنتاج قنبلة نووية وتدمير الغرب ، البحار يرى نهاية
العالم بالإبادة النووية و يتساءل لمَ يسمح الرب بذلك ؟ ، هذا المشهد القاتم
يمكننا أن نرى نسخته الساخرة في مشهد الطفل (وودي آلن) الشاكي من
تمدد الكون في فيلم Annie Hall ، البحار كان في حاجة إلى دواء لقلقه ، القس لم يكتفي بتجاهل قلق
البحار ، وإنما نقل إليه قلقاً جديداً ، القس لم يكترث بأزمة الرجل ، وأخذ يحدث
البحار عن أزمته الشخصية وشكوكه حول الإله ، البحار يفضل أن يُزهق روحه بدلاً من
عذاب إنتظار نهاية العالم أو عذاب الحياة والشك في الرب ، نرى مشهد طويل حيث يتم
نقل جثة البحار يرينا خلاله بيرجمان مدى يأس الإنسان في كون واسع وبيئة موحشة ، طقس بارد
يحتمي منه بشر أكثر برودة ، القس – دون تعاطف أو شفقة – يخبر زوجة البحار بوفاة
زوجها ، تتقبل النبأ بتسليم تام جدير
بمؤمنة .
قس بيرجمان يناجي
ربه ويقول : "يا إلهي لمَ تتخلى عني ؟" ، مثل قس بريسون في
تحفته Diary of a Country
Priest ، ومثل المسيح نفسه خلال لحظات الشك الأخيرة ،
قس بيرجمان يقتله التساؤل عن الخلق والإبداع والحياة ، القس فقد
زوجته منذ سنوات لكنه ظل على حبه لها ، مع طول المدة التي قضاها فاقداً الزوجة
والحب يبدأ فقد الرب ، أصبح فقدان القدرة على الحب مساوي لفقدان القدرة على
الإيمان ، بعد وفاة زوجة القس صار على علاقة مع مارتا ، لكن سرعان ما
أصاب العلاقة فتور تحول إلى إزدراء من جانب القس ، وإن كانت الفتاة لاتزال تحبه ،
يصب القس على مسامع مارتا كلمات يمكننا وصفها بالقاسية من باب التلطيف ، يخبرها
بأنه كاره و مزدري لكل ما له علاقة بها ، القس – صاحب الوجه الحجري – يبدو بارداً
منعزلاً ، بينما مارتا الملحدة أكثر دفئاً وحباً وإيماناً حتى !
في فيلمه السابق Through A Glass
Darkly ربط بيرجمان بين الرب والحب ، وكيف أن بغياب الحب يغيب الرب كذلك ،
تسمية ثلاثية (صمت الإله) – المكونة من فيلم (خلال زجاج معتم) و (ضوء الشتاء) و
(الصمت) – ربما أضرت قليلاً قيمة الأفلام حيث صار الأسهل تأويل
كل تفاصيل الأفلام الثلاث من خلال نفس وجهة النظر ، تشبيه بيرجمان في
فيلمه الأول تكرر مع فيلمه الثاني عن إله عنكبوت ، ربما يعود التشبيه إلى فكرة نيتشه
عن الإنسان المحاصر قليل الحيلة داخل شبكة ضخمة من الوجود .
القيّم على الكنيسة
يخبر القس عن أفكاره حول معاناة المسيح الروحية ، والتي ينبغي الوقوف عندها وليس
المعاناة الجسدية ، كيف تعذب المسيح وهو على الصليب لشكه حول صمت الإله وكذب
نبوءته ، إن كان هذا الحال مع المسيح فكيف الحال بالإنسان ، نرى كيف يمكن إسقاط
آلام المسيح على آلام القس من خلال كلام القيّم بأن المسيح لم يجد من يفهمه وسط
أتباعه ، وشكوكه حول تخلى الرب عنه ، أزمة المسيح وقتياً كذلك تتشابه مع أزمة القس
خلال الفيلم الذي يصوّر كذلك بعض ساعات من أزمة القس ، حوار القيّم هو واحد من أجمل
النصوص التي تعكس أستاذية بيرجمان المؤلف .
"تصوير الذات هو شيء
على المرء ألا يرتكبه ، لأنه من الخطأ الكذب حتى خلال السعي لقول الحقيقة"
– بيرجمان
الفيلم من أفلام تاركوفيسكي
المفضلة ، والفيلم الوحيد ربما الذي رضي عنه صانعه ، قد يرجع ذلك إلى مدى خصوصية
الفيلم عند بيرجمان على الرغم من تعمد المخرج السويدي وصف الحالة والأزمة و فقط ،
فإلى جانب علاقة بيرجمان الشائكة مع النساء كان الأكثر أهمية هو والد بيرجمان القس
اللوثري ، في نهاية الفيلم لم يتغير شيء عن بدايته ، وإن كان العدد أقل ، موقف
شهده بيرجمان بنفسه ، حيث اضطر والده إلى إعطاء عظة في كنيسة تكاد
تكون خالية متعللاً بأن "على المرء فعل واجبه – خاصة خلال سياق روحي – حتى لو كان ذلك بلا معنى"
.
الموسيقى غائبة في
الفيلم لترادف الجفاء ، فكانت التراتيل والموسيقى المصاحبة تصطنع صفاء وتناغم غير
موجود ، كاميرا سفن نيكفست صورت ببراعة العزلة التي تعيشها شخصيات الفيلم ،
كما أن مصور بيرجمان المفضل أرشد المشاهد – كالعادة – عما يجب رؤيته داخل
الصورة ، على الرغم من سوداوية بيرجمان وشخصياته المعتمة ، لكن السخرية كانت في عنوانه
السويدي ، الذي يعني (المتناولون أو المتواصلون) ، بينما الفيلم لا يوجد به سوى فقدان التواصل بين
البشر وبعضهم ، وبينهم وبين السماء .
الفتاة الملحدة ليس
لديها أزمة تتعلق بالرب ، لكن أزمتها تتعلق بالحب ، لذا كان من المنطقي أن تكون صلاتها
لإله لا تؤمن به من أجل رجل لا يحبها ! ، بينما أزمة الحب داخل القس أطاحت بالرب ،
وابدلت التسامح بالصلف ، تقرحات يد الفتاة ترجح عكس ما سبق ، وأن المسيح في هذا
الفيلم ليس القس ، إنما الفتاة نفسها ، مارتا التي تعذبت كثيراً بداعي الحب والعزلة
، بينما يقابل هذا الحب بصمت القس ، لك أن تعتقد ما الذي يمثله القس – الشاكي من
صمت الإله – بصمته ، كيف يلومونه على الصمت وهم الصامتون !
"على الرغم من
معتقداتي وشكوكي – التي لا أهمية لها بهذا الخصوص – أعتقد أن الفن فقد محرك إبداعه
الأساسي عندما تم فصله عن العبادة ، تم قطع حبله السري ويحيا الآن حياة عقيمة ..
يولِّد ويحط من قيمة ذاته ، في الأيام السابقة ظل الفنان مجهولاً بينما عمله كان
لتمجيد الرب" – بيرجمان
0 التعليقات :
إرسال تعليق