كتب : أحمد أبو السعود
التقييم : 5/5
بطولة : سعاد حسني ، شكري سرحان
إخراج : صلاح أبو سيف (1967)
بدا صلاح أبوسيف خارج إطار الواقعية الذي التزم به طوال مشواره مهزوزاً و مُشتتاً ، لدينا أمثلة واضحة على ذلك كالوسادة الخالية و لا وقت للحب و سقطت في بحر العسل ، أصالة أبوسيف مُركزة بالكامل في حسه الواقعي الذى طبعه على أفلامه العظيمة ؛ الأفلام التي يعتبرها الكثيرون العمود الفقري للواقعية في السينما المصرية .
يقول أبوسيف أنه إذا كان يقوم بتصوير شارع ما و وجد في جانبه صندوق
قمامة مُبعثر فلن يصوره بالتأكيد .. نظرة قد تبدو متعالية على مفهوم الواقعية نفسه
؛ نظرة دفعت أحد النقاد إلى وصف الزوجة الثانية وقت عرضه أنه فيلم تم تصويره بقبعة خواجة ! ،
التزم أبوسيف طوال مشواره بتلك النظرة الجمالية للواقعية ، لم يهتم بتصوير مظاهر
الفقر و الظلم البائسة قدر اهتمامه البالغ بتصوير أثر ذلك الفقر و الظلم على البشر
أنفسهم عن طريق تقديمه تشريح نفسي عظيم لشخصياته ، في الزوجة الثانية يتجلى
أسلوب أبوسيف كأفضل ما يكون .
في الليلة التي ينتظرها العمدة ليتزوج فيها فاطمة - الفلاحة المغلوبة على أمرها التي قررت أن تضحى بنفسها في سبيل عائلتها الصغيرة - يحدث قدر لا بأس به من الصدف ، منها مثلاً أن يتواجد أبو العلا - زوج فاطمة المغلوب على أمره أيضاً - في غرفة العروسين الجدد ، و قرار حفيظة - زوجة العمدة ، المادة الخام لكيد النسا - بتنفيذ خرافة ما تؤمن هي بأنها ستُمكًنها من حلم الأمومة الذي يسيطر عليها و تنص الخرافة على أنها يجب أن تمارس الجنس مع زوجها في تلك الليلة ، فينصاع العمدة لرغبة زوجته بعد تهديدها له و ينجو أبو العلا من موت محقق كان سيقع عليه لو تم الإمساك به بل و يقضى في النهاية ليلة حميمية مُشبعة مع فاطمة ، نحن هنا أمام مشهد محوري جداً في السيناريو ، سيؤدى هذا المشهد في النهاية إلى تتابعات ستشكل بالكامل الشكل الذى اتخدته النهاية ، أن يعتمد مشهد مثل هذا على مجموعة من الصدف فهذه مغامرة قد تنسف بالكامل البناء الدرامي للفيلم ! ، النص هنا يقدم بناءاً درامياً عظيماً لشخصياته ، كل فعل و كل فعل لكل شخصية محسوب بدقة متناهية ، الخلفيات النفسية و البيئية لكل شخصية ، العادات و التقاليد المُتبعة في تلك القرية ، لاحظ أن قرار فاطمة بالتضحية بنفسها جاء بعد سماعها بالصدفة لأغنية الأراجوز ، إذن السيناريو في لحظاته المهمة يدفع بالصدفة إلى صدارة المشهد كي تدفع الأحداث إلى الأمام لكن بدون قفز على أي خطوة في بناء الشخصيات ، بدون تجاوز المنطقية و التمهل في التقاط أفعال و ردود أفعال الشخصيات ، السيناريو لا يترك شخصية إلا و أغرقها تماماً في انعكاسات واقعية ستندهش من قدرة السيناريو على التقاطها بتلك البراعة : رجل الدين المنافق الذى يرافق العمدة كظله ، الخفير المغلوب على أمره الذى يحرس و ينظف و يخبز ، المأمور الساذج المتوحش الذى لا يهمه سوى الأكل و تلفيق المحاضر ، زوجة الأخ التي لا تفعل شيئاً سوى كيدها لحفيظة ، الفلاحة التي تسعى مراراً لاستعادة جاموستها التي سرقها منها العمدة ، و هناك بالطبع الأربع شخصيات الرئيسية بكل ما تفعله و كل ما يحدث بينهم .
سيناريو مثل هذا يحتاج حرصاً في التعامل معه ، يحتاج بيئة بصرية معينة تتحرك خلالها الشخصيات ، أبوسيف - كما ذكرت - لا يصور القمامة ، لا ينتبه للتفاصيل المؤذية للعين ، هو يُركز بالكامل مع شخصياته ، يسمح لتلك الشخصيات بتشكيل ملامحها رويداً رويداً ، يهتم بأدق التفاصيل الشكلية لتلك الشخصيات ؛ الملابس ، الاكسسورات ، الديكورات ، لاحظ مثلاً التحول الشكلي لفاطمة على مدار الأحداث و خصوصاً المسافة الفاصلة بين مشهد المداعبة الطفولي بينها و بين زوجا أبو العلا بتواجد ذلك المشهد في بيئة بصرية مُتقشفة - و ليست قبيحة - ، و بين مشهد محاولة العمدة ممارسة الجنس معها في الغرفة الفاخرة التي جهزها لها ، أبوسيف يطبع على المشهد الأول رغم قلة الإضاءة فيه روح صادقة تشعر معها بالسعادة الساذجة ، و المشهد الثاني رغم إضاءته بالكامل فيه كره و غل و ظلم طافح فى جنباته ، يخلق أبوسيف البيئة البصرية المناسبة لكل مشهد ، البيئة التي تُمكن الشخصيات من السيطرة على مفاصل الأحداث و إعطاءها التدفق المطلوب تماماً .
في كل أفلام ابوسيف الواقعية لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عنها بدون ذكر دور عنصر التمثيل فيها ، الرجل عظيم في توجيه الممثلين بل و إخراج طاقات تمثيلية جبارة منهم ، سعاد حسني قبل التعامل معه في القاهرة 30 غير سعاد حسنى بعد التعامل معه و في الزوجة الثانية تؤكد على ندرة موهبتها و بأنها الممثلة الأعظم فى تاريخ السينما المصرية ، هو من أعطى سناء جميل الفرصة الحقيقية كي نعرف أي ممثلة عظيمة هي و تتخطى هنا حدود العبقرية في مشهد ولادة فاطمة بنظرة عينيها التي تنتقل في الثانية الواحدة من غل و شر إلى ضعف و لهفة لإحساس الأمومة ، صلاح منصور يتألق معه و هنا خصوصاً كما لم يظهر من قبل ، شكري سرحان يكفيه مشهد إجباره على تطليق فاطمة ، في الخلفية لدينا عبدالمنعم إبراهيم و حسن البارودي و سهير المرشدي و كل الكاست المساعد في دعم واقعى تماماً لنظرة أبوسيف لمفهوم الواقعية .
قد يكون أبوسيف مرتدياً هنا قبعة خواجة تجعله ينظر إلى الواقع بتعالي الفنان المثقف ، لكنه في صميمه يحمل روحاً مصرية أصيلة يتجاوز بها الشكليات التقليدية لمدرسة الواقعية ليرسم بورتريهاً رائعاً لشخصيات عاشت بدون أن يعرف عنها أحد .
0 التعليقات :
إرسال تعليق