كتب : خالد إبراهيم
التقييم : 4.5/5
بطولة : إنريكه إيراثوكي ، مارغريتا كاروزو
إخراج : بيير باولو بازوليني (1964)
"كل ما أريده أن تنظر
حولك لتلاحظ المأساة ، ما هي المأساة ؟ ، المأساة أنه لم يعد هناك أي إنسان ، هناك
فقط بعض الآلات الغريبة تصطدم ببعضهم البعض" – بازوليني
يبدو أن بازوليني
الشاعر كان مؤمناً بأن على القارئ الوقوع في غرام القصيدة من أول سطر ، منذ أول
لحظة في الفيلم – وجه العذراء – لا يمكنك تجنب الصورة الآسرة ، فيكون التحدي الأصعب –
عند أكثر المشاهدين تحفزاً – هو التركيز مع المحتوى عندما يكون المظهر بهذا الجمال
.
يظهر الملاك ليوسف بعد
بداية الفيلم الصامتة ليتكلم ، يتم كتم صوت الأطفال الذين يلعبون بالخارج ، لا
يوجد حوار بين يوسف ومريم ، فقط تبادل نظرات ، في حين أن الرب احتاج للكلمة ولم
يتوقف طول الفيلم عن الكلام ، يُثبت بازوليني صحة فرضيته بأن الوجوه الخالية من التعبير يمكنها أن
تكون أكثر تعبيراً ، الصمت بالإضافة إلى الممثلين غير المحترفين الذي استعان بهم بازوليني
ساهموا في تأصيل الجانب الوثائقي الذي أراده لفيلمه ، بالتوازي مع التناول الشاعري
لسيرة المسيح ، الكاميرا المحمولة لعبت دور درامي في دعوة المسيح ، حيث كانت مهتزة في أوائل الدعوى لكنها أصبحت أكثر
ثباتاً شيئاً فشيئاً ، عند مقتل يوحنا المعمداني مثلاً عاد إلى الكاميرا المحمولة
لترادف الحالة النفسية الهائجة ، فكانت الكاميرا المحمولة مصورة للجانب الإنساني
للمسيح ، بينما الكاميرا الثابتة مصورة للجانب الإلهي منه .
من الصعب مشاهدة الفيلم
وتجنب ملاحظة ماركسية المسيح كما صوره بازوليني ، قد سبب هذا بعض الضيق عند بعض النقاد المؤمنين
والماركسين كذلك ، لاستشعارهم أن بازوليني لم يكن صادق للقضية كفاية ! ، فيلم بازوليني يقول
بأن الدين الذي أتى به المسيح هو دين الفقراء ، خلال موعظته اختار بازوليني من الإنجيل
ما يخدم هذا الغرض ، وعرض الموعظة بطابع وثائقي كأنه منوعات ومقتطفات من حديث ثائر
سياسي / ناشط عمالي / زعيم تحرري ، عندما ذاع صيت المسيح صوره بازوليني بمقاييسنا
الحالية وكأنه مغني شهير أو لاعب كرة ، بحيث صور شغف الناس به كما نرى الحال مع
عشاق النجوم في التلفاز ، صورة الجنود الرومان مثلاً وهم يشكلون حاجزاً بشرياً كي
يمنعوا المعجبين من الوصول إلى المسيح .
أثناء محاكمة المسيح
تصور الكاميرا المحاكمة من بعيد ، الكاميرا خلف الناس بمن فيهم من أتباع المسيح ، بازوليني
يريد وضع العبء على كاهل الناس المشاهدين السلبيين ، وليس على عاتق الكهنة الذين
يخططوا لصلبه ، يستعير بازوليني في المشهد أساليب سينما الحقيقة cinema verite محاولاً دمج المشاهد مع
الحدث ومستنطقاً الحقيقة ، لم يرحم بازوليني كذلك تلاميذ المسيح الذين تبرأوا منه ، واصدر عليهم
حكمه سينمائياً من وجهة نظر أخلاقية وليست دينية .
بعد أن أحدث فيلمه
القصير La ricotta الكثير من الضجة بسبب سخريته من الفساد الديني والاجتماعي والروحي في
المجتمع الإيطالي ، تم الحكم على بازوليني بالسجن لمدة أربع أشهر ، لكنه دفع الغرامة اللازمة
ولم يقضي العقوبة ، الفيلم القصير عرض مجتمع يدعي المسيحية طوال الوقت لكنه يجوّع
الفقراء والمحتاجين ويقسوا عليهم ، ولا يكتفي بذلك لكنه يقوم بكل تلك الأمور
ساخراً مزدرياً محافظاً على جماله السطحي في مقابل قبحه الداخلي ، بابا الفاتيكان
قرر أن يدعو الفنانين الغير كاثوليكيين للحوار ، كان الزحام في المدينة شديداً
بسبب زيارة البابا ، فاضطر بازوليني للمكوث في حجرة الفندق ، وجد داخل الغرفة نسخة من
الإنجيل فقرأها وقرر إنجاز فيلم عن حياة المسيح طبقاً لإنجيل متى الذي يوافق رؤيته
الفنية ، وكان له ما أراد وبالطريقة التي أراد ، حيث أخذ السيناريو والحوار
بالكامل من الإنجيل ، فيما بعد سيقول الشاعر بازوليني : "الصور لا يمكنها
أبداً الوصول إلى المرتفعات الشعرية للنص" ، زار بازوليني
الأراضي المقدسة لدراسة إمكانية التصوير هناك ، لكن وجدها تجارية صناعية أكثر من
اللازم ، فاختار التصوير في مقاطعة إيطالية فقيرة ، لاحقاً سيصور ميل جيبسون
فيلمه The Passion of the Christ في نفس
المكان .
أحد الصحفيين سأل بازوليني كيف
له – وهو غير مؤمن – بأن يصنع فيلماً عن الإيمان ، كان جواب الإيطالي : "يبدو أنك تعرفني أكثر
مما أعرف نفسي ، قد أكون غير مؤمن ، لكني غير مؤمن يحمل حنيناً للإيمان"
، قد يكون الفيلم بالفعل من صنع شخص غير مؤمن لكنه من خلال عينين شخص مؤمن ، قبل
عرض الفيلم تجمع الجمهور لتعبير عن استيائهم من بازوليني وفيلمه ،
لكنهم بعد الفيلم هتفوا له ، ولم يقتصر الأمر على ذلك لكن الفيلم كذلك حصل على
جائزة الفيلم الكاثوليكي الدولية .
معظم طاقم التمثيل من
غير المحترفين، بينما كانت (مريم) – في صورتها العجوز – أم بازوليني نفسه ، من
أدى دور المسيح كان طالب اقتصاد أسباني لديه فقط 19 عاماً ، وقد قابله بازوليني في
أحد المحافل السياسية وعرض عليه الدور مباشرة ، جدير بالذكر أن الشاب الأسباني كان
أيضاً غير مؤمن ! ، الاختيار الموفق – من وجهة نظري – حقق للفيلم نجاحاً كبيراً في
تصوير المسيح الغريب عن ملكوت الأرض .
بازوليني لم يهتم كثيراً
بالدقة التاريخية ولكن بالصورة الشعرية ، فآثر البعد عن كل ما قد يسبب شعوراً
بالغرابة ، وإن كان صحيحاً تاريخياً ، مثلما فعل تاركوفيسكي في Andrei Rublev ، من أجل الوصل إلى تلك الصورة الشعرية قرر بازوليني أن يصنع خليطاً
بصرياً ، ويستعين بمراحل مختلفة من الفنون التشكيلية والرسم الديني ، فيقول :
"الفيلم عن حياة المسيح بالإضافة إلى 2000 سنة لاحقة من قص حياته"
، المخالفة الكبرى التي اقترفها بازوليني بصدد الفن الديني كانت في شخص المسيح نفسه ، حيث كان
تصور الإيطالي مختلف تماماً عن أغلب التصورات عن المسيح قوي البنية ، فاختار بازوليني شخصاً
هزيلاً مما جعل بعض النقاد الخبثاء يرون أنه اختاره لأنه يُشبه جيفارا .
شريط الصوت كذلك كان
غنياً ومتنوعاً ، اختيارات بازوليني كانت لها صلات روحية من كل مكان حول العالم ،
لمحاولته بأن يصنع أصالة لفيلمه لا تعود إلى أصل واحد ، ولكن لأصل كل واحد ،
استخدم الفيلم الموسيقى الكلاسيكية – آلام (متى) لـ(باخ) بالتأكيد
– كما استخدم أغنية روحية أمريكية (أحياناً أشعر كأني طفل بلا أم) ، الأغنية لها العديد من
الطبقات أولها حنين طفل أفريقي إلى أمه بعد أن تم بيعه كعبد في أمريكا ، لكن
الأغنية لها بعد آخر أكثر شمولاً هو حنين الأفارقة بوجه عام إلى العودة إلى
أفريقيا الأم ، ثم جاء بازوليني ليضيف بعداً آخراً وهو حنين المسيح إلى ملكوت
السماء بعد أن شعر بالاغتراب في الأرض ، ربما يقصد بأنه ليس حنين المسيح وحده
بل حنين كل شخص ، أو كما قال بازوليني بأن لديه حنين للإيمان ، استخدم أيضاً بازوليني
تراتيل كونغولية بديعة ومبهجة في لحظات مهمة في حياة المسيح ، التنوع
الأسلوبي والمصادر المتعددة أكسبت الفيلم قوة لا أعتقد أن يصل إليها أي فيلم آخر
يتناول حياة السيد المسيح .
"كنتُ في العشرين ..
لا في التاسعة عشر
لكني كنتُ حياً لمدة قرن
حياة كاملة اُستهلكت بألم
الحقيقة"
بازوليني شاعراً
0 التعليقات :
إرسال تعليق