كتب : خالد إبراهيم
التقييم : 4.5/5
بطولة : هنريك مالبرغ ، إميل هاس كريستنسن ، بريجيت فيدرشبيل
إخراج : كارل تيودور دراير (1955)
"الواقعية في حد ذاتها
ليست فن ، لكن لابد من وجود تناغم بين أصالة المشاعر وأصالة الأشياء ، أحاول أن
أدفع الواقع لتكوين بساطة وإيجاز ، بغية الوصول إلى ما اسميه الواقعية النفسية"
- أستاذ الأساتذة (كارل تيودور دراير) .
القديس دراير سبق له
أن أشار إلى أنه قائد حركة فنية ليس لها أتباع ، لكني أعتقد أن أي فيلم وأي مخرج
يمكن أن ينتمي إلى ما قد نسميه (السينما الروحية) فهو مدين ببعض الفضل للمعلم الكبير .
الفيلم يأخذنا لريف الدنمارك في
منتصف عشرينات القرن الماضي ، مورتن صاحب مزرعة غني أرمل له ثلاث أبناء ، ميكيل الابن
الأكبر – لا يؤمن بشيء – متزوج من إنجر ، امرأة دافئة مؤمنة وحبلى بالطفل الثالث ، يوهانس الابن
الأوسط والذي تم إرساله لتعلم اللاهوت لكنه عاد معتقداً بأنه المسيح الحي مخلفاً
خيبة الأمل لأبيه ، أندرس الابن الأصغر الذي يحب آن بنت الخياط بيتر ، مورتن يرفض
زواجهما ، بيتر كذلك يرفض ، عندما يبدو الأمر وكأننا بصدد محاكاة لمسرحية شكسبير روميو و جوليت
نجد أن مورتن أصبح يُصر على إتمام الزواج بعد رفض بيتر ، تموت إنجر أثناء
ولادة الطفل ، يأتي يوهانس الغائب منذ أيام ليلقي كلمته على إنجر فتقوم
حية من النعش.
عمد دراير إلى
حركة كاميرا أفقية بطيئة ، الكاميرا قد تذهب بهدوء ناحية اليمين ثم ناحية اليسار
في نفس اللقطة ، أحياناً لملاحقة شخصية تتحرك وأحياناً للعودة إلى شخصية ساكنة ، جعل
هذا المشاهد طويلة بلا قطع ، والمشاهد الطويلة بدورها أكسبت الفيلم حيوية صبورة
لأن "كل فيلم له روح خاصة به" ، أحد المشاهد الطويلة الشهيرة كان
المشهد الذي تحاول إنجر اقناع مورتن بزواج ابنه من بنت الخياط ، يمكن دوماً ملاحظة التفاصيل
والزمن التي قد يتم إهمالهما عند القطع ، في مقابل مشاهد طويلة تعكس تناغم الكون
الخفي ، إيقاع الفيلم البطيء يتناسب مع الحياة الريفية التي يعيشها سكان القرية ، كما
أنه إيقاع تأملي له فعل التنويم المغناطيسي يساهم في إبراز العميق من المشاعر رغم
قلة تعابير شخصياته ، الإيقاع ساهم في تحقيق مسعى المخرج العظيم للتأثير على
المشاهد بترسيخ صورته في قلب المشاهد قبل عقله .
بالطبع لم ينس دراير قديساته
في فيلمه (الكلمة) ، فكانت إنجر قديسة بطريقتها الخاصة ، و بالمحبة التي منحتها لعائلتها
وإيمانها اللا مشروط .
من متع الفيلم
العقلية كانت سخريته من الإيمان الناقص أو ربما عدم إيمان صاحب المزرعة مورتن و الخياط
بيتر ، فالاختلاف الديني في المذهب والاعتقاد لم يكن المبرر
الحقيقي لرفض هؤلاء الشيوخ زواج الأبناء ، لكن السبب الحقيقي كان الفخر ، الخطيئة
الأم والأكثر هلاكاً في معتقدهم ، بيتر رفض الزواج لأنهم أفضل روحياً وأصحاب المعتقد السليم ،
رفض مورتن الزواج للسبب ذاته ، ثم تسبب الفخر من جديد في إصراره على
إتمام الزواج بعدما تم رفض ابنه أندرس .
إحدى اللقطات الانتقالية
العظيمة كانت لعربة مُحمَّلة داخل أرض زراعية ، تحتل الأرض أغلب مساحة الشاشة تم
تسير العربة على جسر خشبي فوق مجرى مائي ، التأويل مفتوح لرمزية الأرض والسماء
والجسر الخشبي والعربة ، اللقطة كانت بين مشهدين مهمين ، المشهد الأول بين الخياط
وزوجته حيث يخبرها عن المكاسب الدنيوية ومكاسب الآخرة ، والمشهد اللاحق يجمع بين يوهانس والقس
الجديد الذي يرد على زعم يوهانس – أنه المسيح الحي – بطلب القس الدليل من يوهانس ،
يُصدم يوهانس من طلب القس الدليل ويقول أن كنيسته – بوصفه المسيح –
قد خذلته ، المسيح نفسه عندما طلب منه الشيطان أن يقفز من أعلى حتى تتلقفه
الملائكة فلا يتحطم جسده ، رفض المسيح فعل ذلك حتى لا يكون طلبه المعجزة دليل عن
قلة إيمانه .
الأسئلة الإيمانية لا
تنتهي عند دراير ، الكلام عن الإيمان في مقابل الإيمان كممارسة ، الأطفال
بالإضافة إلى إنجر مؤمنين بلا شرط ، يوهانس نفسه لمسه شك عندما عاد إلى رشده في النهاية ، إنجر المؤمنة
بشّرت ميجيل – الغير مؤمن – بدفء الإيمان لأنه يملك قلب سليم ، الخياط
تمنى أن تحدث مصيبة لدى مورتن حتى يتوب مورتن و يعرف الطريق الصحيح ، عندما حدثت المصيبة كان الخياط
هو من يطلب التوبة ، يوهانس تنبأ بموت إنجر مرتين ، مرة منهما بعدما أنقذ الطبيب حياتها أثناء
الولادة لكنها ماتت رغم ذلك ، أن تموت بعد أن استقرت حالتها .. أليس هذا فعل خارق
للطبيعة ؟ هل يمكن اعتباره معجزة كذلك ؟
في البدء كانت الكلمة
، يعود دراير إلى البداية .. إلى الكلمة .. إلى المعجزة المتحققة من
الكلمة ، يعرض الفيلم لوجهات نظر مختلفة حول المعجزة قبل أن يختتم تحفته بمعجزة ،
الزوجة المؤمنة ترى أن هناك معجزات صغيرة تتحقق في الخفاء حتى لا يثار الكثير من
الضجة حولها ، الطبيب يؤمن بمعجزات العلم فقط ، القس يؤمن بأن المعجزات لم تعد
تحدث حتى لا تخرق قوانين الطبيعة ، كان يمكن ليوهانس – وهو قادر على فعل المعجزات –
أن يُثبت لهم أنه المسيح الحي لكنه فعل مثل فعل المسيح عندما طلب منه الشيطان ذلك ،
فحدثت المعجزة فقط لزوجين محبين ، فتتحقق المعجزة بالحب لتعكس إيمان دراير أن الحب
بذاته معجزة .
"لإنك لم تشأ أن
تستعبد البشر بالمعجزة ، إنما أردت أن يجيئوا إليك بدافع الإيمان لا بتأثير
العجائب" دوستويفسكي – الأخوة كارامازوف .
الطريف هنا أن
المشاهد المؤمن يُنكر – بشدة – حدوث المعجزة حتى يمنح دراير البراءة ، بينما
المشاهد الغير مؤمن يؤمن – بشدة – بأن المعجزة حدثت حتى يُثبت إدانة دراير ، في
رأيي هو تناقض شبيه بما رأيناه عند مورتن و بيتر ! ، دائماً ما يتم ضرب المثال بأن لو كان دافنشي أعلن
سبب ابتسامة الموناليزا لمات سحر لوحته ، ولم يكن ليُكتب فيها كل ما كُتب ، فيلم دراير كذلك لا
زال يثير الجدل حتى الآن ، وهو نوع من الجدل الطريف في رأيي .
عام 1932 حضر دراير عرض
مسرحية القس اللوثري مونك ، ومنذ ذلك الحين وهو يجهز لتحويل مسرحية (الكلمة) لفيلم
، دراير لا يريد أن يجعل فيلمه مسرحية مصورة ، لذا قام بالتخلص
من حوالي ثلثي الحوار ، اكتفى بما رآه ضروري ليناسب أسلوبه شديد الزهد .. شديد
التكثيف ، رأى الناقد أندريه بازان أن الفيلم هو عرض مسرحية بوسائل سينمائية ..
"أنت لا تسجل المسرحية أو تحولها إلى فيلم .. لكن تقوم بتبديلها عن
طريق عرضها على أداة جديدة" ، دراير – كعادة الأساتذة – اختار كل شيء ظهر في الفيلم ، بما في
ذلك ملابس كل الشخصيات ، وصل به الأمر أن ذهب للتبضع مع الممثلة الرئيسية لشراء
جوارب لها ، وتسجيل صوت ولادة طفلها لاستخدامه فيما بعد في الفيلم .
دراير من أمهر وأقدر من
استخدم الضوء الطبيعي في السينما لإضفاء أغراض تعبيرية ، كما أنه في بمثابة أب لكل
الأفلام الروحية التي أتت من بعد تحفته الأولى The Passion of Joan
of Arc ، الناقد جوناثان روزنبام يقول أن أفلام دراير لم تسبق عصره فقط ، لكنها سابقة لعصرنا حتى ، والاحتفاء
بها وبجمالها الدفين ستتم ملاحظته في المستقبل ، مواطن دراير الدنماركي لارس فون ترايير
ارتدي في افتتاح أحد أفلامه نفس البذلة التي قام دراير بإرتدائها في
افتتاح فيلمه (الكلمة) ، بينما في عصر دراير هاجمته الصحافة
وقالت أنه عجوز مخرف ! ، على كُلِّ فيلمه (الكلمة) وجد استحسان من قبل الجمهور والنقاد ، وحصل على دب برلين الذهبي
.
"لا شيء في العالم يمكن
مقارنته بالوجه البشري ، هي أرض لا يمكن أن يتعب المرء من اكتشافها ، في الاستوديو
لا توجد تجربة أعظم من أن تشهد تعبير على وجه مرهف تحت تأثير القوى الغامضة
للإلهام ، رؤية التعبير يتحرك من الداخل ليتحول إلى شعر" - أستاذ
الأساتذة كارل تيودور دراير .
0 التعليقات :
إرسال تعليق