كتب : خالد إبراهيم
التقييم : 4.5/5
بطولة : أناتولي سولونيتسن ، إيفان لابيكوف
إخراج : آندريه تاركوفسكي (1966)
مقدمة الفيلم : الفنان
المحلق بفنه عالياً ، بعيداً عن الغوغاء بالأسفل ، ثم الهبوط المؤلم على أرض
الواقع .
"السيناريو الأصلي
يتضمن تسلق قروي كاتدرائية ، وقد صنع لنفسه جناحين ، ثم يقفز محاولاً التحليق غير أنه
يهوي ليلقى حتفه ، يقينا لم يكن لديه الوقت ليرى شيئاً ، فقد هوى وتحطم في لمحة ، قررنا
استخدام بالون غير متقن الصنع ، وقد شعرنا بأن هذا سيحرر المشهد من البلاغة
الزائفة" *
يذهب الرهبان روبليوف – دانيال – كيريل إلى موسكو بحثاً
عن عمل بالرسم ، يحتموا من المطر عند أهل قرية ، يقوم بتسلية الناس مهرج يتعرض للسلطة
(الكنيسة والأمراء) ، دانيال "القس صُنع الرب ، المهرج صُنع الشيطان" ، يختفي كيريل فتأتي الشرطة
للقبض على المهرج ، الرسام اليوناني ثيوفانيس يعرض على كيريل مرافقته لرسم الأيقونات ، يشترط كيريل أن يأتي
اليوناني ليأخذه من الدير أمام الجميع بما فيهم روبليوف الأكثر موهبة
، كيريل : "سأعمل بلا مقابل مثل الكلب" ، يسقط كيريل بفعل الزهو ، الرسام يدعو روبليوف بدلاً من كيريل .
دانيال – رفيق روبليوف – يرفض
مصاحبته لأن روبليوف قرر الذهاب دون استشارته ، دانيال يسقط في الزهو بدوره
لكنه ينجو بعد توسل روبليوف الرقيق ، كيريل يترك الدير بعد إثارته ضجة حول الكنيسة المغرقة في
المادية ، روبليوف مؤمن بالبشر والرسام اليوناني كافر بهم (جهلهم وغرورهم –
تجمعوا كتلاميذ للمسيح ثم تجمعوا بعدها لقتله) ، روبليوف ينسى نفسه
أثناء متابعة طقوس الحب لدى الوثنيين لكن النار توقظه من غفلته عندما تمس ثيابه ،
الوثنين يمارسون الجنس بحرية ويعيشون بلا ملابس ، عادوا إلى صورة الإنسان الأول
الأكثر سعادة في مقابل صورة الراهب المثقل بالهموم .
"لا يظهر روبليوف
دائماً ، لكن حتى عندما لا يكون حاضراً فإن من الضروري إدراك الحياة التي عاشتها
روحه ، لابد من تنفس الجو الذي شكل علاقاته بالعالم ، هذه الحكايات ليست متصلة بخط
كرونولوجي (مرتب زمنياً) تقليدي ، بل بواسطة المنطق الشعري"
يترك تاركوفيسكي
الكاميرا تُحدق في الحوائط البيضاء ، موضحة أزمة روبليوف حيث عليه رسم
كل تلك الحوائط والأسقف ، بينما يشعر بالملل وعدم الرغبة في العمل ، يرفض روبليوف رسم
لوحة يوم القيامة لرفضه ترويع الناس بأهوال الآخرة ، يأتي مشهد محاكاة صلب المسيح ليعكس
القلق الإيماني عند روبيلوف ، يذهب العمال لتزيين قصر الأمير الأكبر لكنهم يجدون
قوات الأمير الأصغر ، تقوم القوات – بوحشية – بفقء أعين العمال ، يعلم روبليوف بالأمر
فيقذف بعض الطلاء على الحائط ، فتاة بلهاء (زوجة تاركوفيسكي وقتها)
تنزعج – بالفطرة – من هيئة الحائط ، أغلب الظن أن الطلاء كان أحمر ، نقاط الطلاء
في نفس الكادر مع البلهاء كمرادف لقتل البراءة عند روبليوف ، توزيع
النقاط يوحي بالعبث .
يساعد الأمير الصغير
التتار لسرقة عرش أخيه ، يدخل التتار المدينة ، القوات خارج الكاتدرائية ، لكن تاركوفيسكي
سيحرك الكاميرا يميناً لرصد حصان أبيض ، لا أملك تفسيراً لكني أعتقد أن الحصان كان
حزيناً ، الناس داخل الكاتدرائية يتلون الصلوات ممسكين بالشموع ، بعد اقتحام
التتار الكاتدرائية ، يحاول أحد جنود الأمير الروسي النيل من البلهاء الخرساء لكن روبليوف يقتله
، التتار يلقون باللحم للكلاب في زمن جوع شديد ، يقتتل الكلاب فيما بينهم ، تحاول
البلهاء سرقة اللحم ، يعرض عليها أحد التتار أن تكون زوجته الثامنة ، ترحل معه ، يري
روبليوف رؤيا للرسام اليوناني الميت ، أثناء حديثهما نجد
اليوناني في ظهر روبليوف ، ثم في نفس اللقطة غير المكسورة نجده أمامه ، ليوحي
بعدم طبيعية الحدث ، وتضييق الخناق على الفنان اليائس ، قرر روبليوف أن
يخضع لقسم الصمت بعد قتله للجندي ، قرر ألا يرسم مجدداً ، وأن ينزوي بعيداً.
"كان لابد من جعل
الوقائع التاريخية ، والناس ، تبدو مرئية ليس كمواد تذكارية ، إنما كأشياء حية
تتنفس ، على الكرسي أن يكون شيئا يُجلس عليه ، وليس تحفة نادرة ، كان أحد أهداف
عملنا هو إعادة بناء العالم الحقيقي في القرن الخامس عشر ، أي تقديم ذلك العالم
بطريقة لا تمنح الجمهور أي إحساس بالندرة ، بالأشياء الأثرية ، من أجل إحراز صدق
الملاحظة المباشرة" .
يحتاج الأمير إلى صنع
ناقوس ضخم للكنيسة ، صانع النواقيس مات بالطاعون ، تُسند المهمة إلى ابنه بوريس ، أثناء
عمل حفرة للناقوس يجد الفتى جذور الشجرة المقابلة تمتد إلى الحفرة ، تأخذ الكاميرا
وجهة نظر الشجرة في مشهد مهيب ، يراقب الصامت روبليوف العمل وتجربة
الشاب عديم الخبرة ، بوريس لم يتعلم سر الصنعة من والده ولكنه كذب على الجميع
وأخبرهم العكس ، عملية الخلق الفني تحدث ولا يدرك الفنان مآلها ، بالطبع بوريس يغامر
بعنقه في حالة الفشل ، ينجح الفتى بعد انهياره تحت الضغط النفسي ، يرى روبليوف سعادة
الناس ، يحتضن بوريس ، يخرج عن صمته ليخبر الفتى أنه سيعود للرسم و بوريس سيصنع
أجراساً .
روبليوف كان قد فقد الحب في
قلبه ففقد معه إيمانه ، ولما عاد إليه الحب استعاد الإيمان ، وجد أن الفن يكون
لسعادة البشر وليس في سبيل السلطة ، الفيلم الأيقوني يؤكد أهمية الفن وإن كان العالم
همجي ، أهمية الإيمان للأرواح المُعذَّبة.
"في السينما من
الضروري ألا تقوم بالتفسير ، لكن العمل على المشاعر ، والشعور المتولد هو من يحفز
الفكر" .
"روبليوف كان ينظر الى
العالم بعيني طفل محروم من الحماية ، يبشر بالحب والخير ، كان محمياً داخل الدير حيث
تكونت لديه رؤية محرفة للحياة ، و مع انه وجد نفسه يشهد أكثر ضروب العنف وحشية ،
عنف يبدو متحكماً في العالم و يفضي به الى خيبة أمل مريرة ، إلا انه يعود في
النهاية الى الحقيقة ذاتها ، المكتشفة من جديد ، بشأن قيمة الخير والنبل الإنساني ،
وقيمة الحب المخلص الذي لا يفكر بالمخاطر والخسائر ، الهبة الحقيقية التي يستطيع
البشر أن يمنحوها لبعضهم البعض" .
تاركوفيسكي لم يرد صنع فيلماً
تاريخياً ، فلم ينقل حياة الفنان ، وإنما جعل منها مرجع لتصوير التجربة الروحية
للفنان وليس أحداث حياته ، تاركوفيسكي فكر في صنع فيلم بحيث "يكون الفنان كرمز
عالمي تاريخي ، وتكون المسيحية كهوية تاريخية لروسيا" ، لم تحب السلطة
الفيلم حيث كانوا في إنتظار فيلم عن بطل روسي وشعبي (لتحريره الرسم من التأثير
اليوناني وجعله شديد الروسية والشعرية) ، بينما في فيلم تاركوفيسكي لم
نراه يرسم أو يقوم بفعل بطولي .
الشيء الساخر بخصوص
الفيلم أنه من أعظم الأفلام التي تناولت أهمية الحرية الفنية ، ورغم ذلك تم
التضييق عليه بشدة من قبل السلطات ، تم منعه في روسيا بداعي (مسيحيته) ، تم
محاربته حتى لا يصل إلى مهرجانات الجوائز ، وإن وصل لا يشارك في المسابقة الرسمية
، بعد سنين تم عرض الفيلم جماهيرياً ، اشتكى تاركوفيسكي في
مذكراته بأن "المدينة بأكملها لا يوجد بها ملصق دعائي واحد على الرغم من أن جميع التذاكر قد تم
بيعها بالفعل" ، تاركوفيسكي حذف بنفسه بعض الأجزاء من المشاهد الطويلة ، ولم
يندم على ذلك قط ، بل قال أن بعد القطع أصبح الفيلم أفضل ، في أمريكا بتر الموزع الفيلم
لأسباب تجارية .
"كل ممثل يحتاج تعامل
مختلف ، وحتى نفس الممثل يقتضي تعاملاً مختلف في كل دور جديد ، كوليا بورليائيف ،
عندما أدى دور ابن صانع الأجراس ، طوال فترات التصوير كنت أريده أن يفهم من خلال مساعدي
الإخراج بأنني مستاء من أدائه ، وقد أقوم باستبداله ، أردته أن يشعر بان الكارثة
مسلطة عليه ، متدلية فوقه ، وذلك لكي يشعر على نحو حقيقي باللا أمان وبعدم
الاستقرار" .
ممثل تاركوفيسكي
المفضل سولونينسين كان مغموراً وقتها ، لكن تاركوفيسكي اختاره
حيث كان "الجميع لديهم تخيلاتهم المسبقة عن روبلوف"، بينما
وجه سولونينسين كان وجه جديد وتعبيري ، كالعادة كان لابد من أن
يصور تاركوفيسكي سطح ماء ضحل ، العديد من الأحصنة كرمز للحياة و لدواعي
الدلالات الشعورية ، خاتمة الفيلم كانت بالألوان ، تعرض فن روبليوف مصحوب
بموسيقى مهيبة ، رأي تاركوفيسكي أن المشاهد لم يعد يلاحظ بوعي الألوان في حياته
اليومية ، تاركوفيسكي المؤمن
بالشعر استخدم السينما ليصنع شعره البصري ، محققاً فيلماً من أجمل أفلام السينما
حقاً ، فيلم يتعذر إعادة إنتاجه ، كحالة وتجربة ، تجربة فنية للمخرج ، وتجربة غنية
للمشاهد متى ترك تصوراته المسبقة ليخوضها .
"الشيء الأساسي هو أن
تصف الحدث وليس موقفك تجاهه ، الموقف لابد أن يتضح بواسطة الفيلم ككل"
(*) ملحوظة : ما بين علامات التنصيص اقتباسات
بتصرف من كتاب تاركوفيسكي : النحت في الزمن .
اتفق تماما مع كل ماكتب عن عظمة الفيلم مضمونا وشكلا وتكنيكا . هو متعة روحية وذهنية عن حق . ولكن اعتقد ان الفيلم قد افتقد الي عنصر الموسيقي التصويرية والتي كانت ستوءثر تأثيرا ذو فارق عظيم الأثر في إيقاع العمل وتكثيف الحالات الشعورية للأبطال والجدليات الذهنية والفكرية لتاركوفسكي في ظل ثراء الفيلم بالعديد من المواقف الدرامية الملاءمة لترجمتها موسيقيا وذلك في ظل اعتماد تاركوفسكي التام علي الموءثرات الصوتية الطبيعية كوسيلة ملاءمة تكنيكيا لأسلوب السرد السينمائي المعتمد علي الصور واللوحات السينمائية ولكن ان كان هناك تماس حقيقي مع وجدان وشخصية تاركوفسكي في الفيلم فأين هي موسيقي روحه الداخلية وما يعتمل بها ويمكن انعكاسه وتجسيده في مشاهد الفيلم سمعيا . حتي انطلاقا من تصوير الفيلم لحياة رابلف كراهب ولَم يرسم طوال الفيلم وتدفق الموسيقي في فينال الفيلم فقط متزامنة مع كادرات لوحاته التصويرية ولكنها شابتها بعض الشواءب كمحاولة الفتاة التعامل معه نوعيا عند تقييده وايضاً احتفالاتهم الماجنة . كما ان الموسيقي كانت ستكون من الروعة بمكان لتصوير تلك الصراعات بين الوجدان والفن في مقابل المادية والوحشية وما الي ذلك عبر عنه الفيلم . اسلام فتيحة
ردحذف