كتب : مصطفى فلاح
التقييم : 4/5
بطولة : فيليب سيمور هوفمان ، ريتشل
مكادامز ، ويليم دافو
إخراج : أنتون كوربين (2014)
ما تُحاول غالبية أفلام الصنف (الجاسوسية) تشويهه أو
الإلتفاف حوله , يفعله المُخرج الهولندي أنتون كورباين - في إقتباس جديد لكاتب الصنف الأهم منذ عقود طويلة جون لو كاري -
بكل ثقة في التغيير و طموح في الإبتكار ؛ بالرغم من أن قراءة نصوص هذا الإنكليزي
المُخضرم ليست بالسهلة , تحتاج الى الصبر على تفاعل عناصرها الكثيرة , و الأناة
على دراستها السلوكية المُستغرقة في التأمل الطويل , إلا أنها دائماً ما تأتي
بثمارها كاملة و لا يُمكنك إلاّ أن تُصفق بحرارة لكم التشويق المُستتر في طيات الحرب
الباردة التي لم تهدأ منذ إقتباسه الفلمي الأول الذي يحمل إسمها بالمعنى الصريح
للكلمة .
في قلب الحدث , هناك بُعد أنساني مؤثر و نظرة صائبة مُغايرة - من جهة
- للصورة التي ترسمها حرب الجواسيس الهوليوودية منذ زمن و شبيهة - من جهة أخرى -
للصورة الواقعية التي يرسمها الكاتب عند البت في كل عمل جديد ، هذه المرة , شخصية
عيسى تُمثل التناقض الذي ينتهجه لو كاري في رسم محور الحدث الجديد , جوهراً و
ظاهراً , ماضياً و حاضراً , سبباً و نتيجة ؛ سابقاً هو ثمرة البذرة الملعونة لضابط
جيش روسي مُغتصب و إمرأة شيشانية مُسلمة سقطت بين براثنه , أما الآن فهو لاجئ أسمر
مُضطهد في بلده و مشكوك في أمر لجوءه الى ألمانيا ! ، هالة إنكار الذات التي يرسمها الكاتب حول هذه
الشخصية المحورية تبدو غير مُريحة لكل من حوله , تدفع الجميع الى إظهار ما يُخالف
باطنه و تصديق ما تُكذبه عيناه , ترسم لهم هالة إنكار أخرى لهوية راهنة مُنتهية
الصلاحية و له - عيسى - شُبهة راديكالية ذات جذور عميقة .
تفاصيل مُهمة تعقب هذا الشخص هي كل ما يهم الكاتب هنا , ليس هنالك إهتمام
حقيقي بشرح الشخصيات , هي قادرة التعبير عن نفسها جيداً : هيئتها , أفعالها و ردود
أفعالها , نزعتها في التخلص من عقدة (على ما يبدو) و (كما أظن) , رغبتها في أن تكون مُحقة لتتخلص من ذنب (الشك) , أو
مُخطئة لإظهار الطرف المُقابل على (حقيقة) كاذبة ! جزئية التعامل مع هذه المُتناقضات شائكة في ربط
أوصالها , تطلب من المُشاهد التمعن في بواطن الأمور , و تكوين وجهة نظره الخاصة
بدلاً من إعتماد زاوية ضيقة للنظر ؛ فالنص , في باطنه , يستخلص البُعد المُقترن
لفوبيا الخوف من المجهول و يهجو ذاك المُرتبط بطبيعة العلاقات الدبلوماسية في عالم
اليوم دون الإكتراث الكبير لتبرير أي منها .
لكي أكون مُنصفاً - سينمائياً - بعد محاولتي الضعيفة بحل جزء من متاهة
هذا العمل النفسية و الكتابة بأنصاف الكلمات من أجل الإحتفاظ بتشويق السرد , فإن
أطراف هذه الأحجية قد لا تُغري المُشاهد العجول بالبقاء , قد تجعل من إستسلامه في
تفكيكها سريعاً و بدون جدوى , ألا أن الإستعراض الحقيقي الذي يُهديه لنا الراحل فيليب سيمور هوفمان
هو بلسم للجروح الكثيرة التي يُخلفها هذا المشرط السينمائي في نفوس مُشاهديه , سمات
شخصية عميل التجسس الألماني التي يؤديها تجري في جينات دمه رغم حداثة الدور عليه ,
رائع في الإفصاح عن مخاوف هذه الشخصية و أوجاعها من خلال عينيه فقط و إستفزاز خصمه
الآخر - التدبير الأمريكي - بأسلوبه المعرفي لكل ما يدور حوله دون أن يُجهد نفسه
في ذلك.
مشهد الختام يجعلني أرغب في إحتضان الشاشة و عدم التخلي عن هذا الأشقر
البدين الذي حرمنا دوراً آخر في ساحة إختياراته المُميزة .
0 التعليقات :
إرسال تعليق