كتب : عماد العذري
التقييم : 4.5/5
بطولة : سيلفيا باتاي ، جين ماركن ،
جورج دارنو
إخراج : جون رينوار (1946)
لك أن تتخيل فيلماً ذو بنيةٍ تقليديةٍ مؤلفةٍ من ثلاثة أجزاء (بداية و
وسط و نهاية) يُحذف جزئه الأوسط (الأطول و الأكثر تعقيداً) بأكمله ، و يبقى
للمشاهد جزئاه الطرفيان فقط ، و مع ذلك تبدو النتيجة بهذا الجمال و العظمة ، أشياء
كهذه يفعلها فقط كبارٌ من طينة جون رينوار .
الحكاية مقتبسةٌ عن قصةٍ قصيرة لغي دو موباسان تدور
أحداثها في عام 1860 ، مسيو دوفو رجلٌ باريسي ميسور يستأجر عربة توزيع الحليب ليذهب
بعائلته في نزهةٍ في الريف الفرنسي على ضفاف السين ، يرغب دوفو و زوجته
و أمها و ابنته و خطيبها في قضاءٍ يومٍ جميلٍ بعيداً عن ضوضاء المدينة و التزامات
الحياة ، يتوقفون بقرب مطعم السيد بولان (يؤديه رينوار نفسه) ، يتناولون غدائهم و يستمتعون بيومهم و يسلّمون
أنفسهم لفتنة الطبيعة التي تحيط بهم من كل جانب كما يحيط بهم الشابان هنري و رودولف و
نواياهما الغريبة .
الكلام عن الجزء الأوسط من الفيلم ما يزال مثيراً للجدل حتى يومنا هذا
، يقول البعض أنه كان مشروع جون رينوار منذ البداية و أنه كان سيتتبع حكاية هنرييتا و هنري على مدى
14 عاماً باعدت بين لقائيهما في الجزء الأول و الثالث من الفيلم ، و يقول آخرون أن
ما شاهدناه في هذا الفيلم و الذي لم يتجاوز الدقائق الأربعين هو ذاته ما أراده رينوار منذ
البداية ، و أن الحديث عن الجزء الأوسط جاء نتيجة ضغوط إنتاجيةٍ شديدة تعرض لها بحكم
التأثير المغري الذي يمارسه الفيلم الطويل على الجمهور و هي ضغوطات لم يؤكدها رينوار أو
ينفيها ، في الحالتين أصيب رينوار حينها بعقمٍ فني أعاقه عن انجاز ذلك الجزء مما دفع
بالتأجيلات المتكررة لتوليد خلافاتٍ بين رينوار و بعض طاقم العمل ، قبل أن يساهم الطقس الماطر المستمر
في تأجيل أي خطوة ، ثم تتدخل مشاريع رينوار اللاحقة و عراقيل الإنتاج في القضاء على فكرة انجاز
الفيلم و إبقاء مادته المصورة حبيسة العلب لعشرة أعوامٍ كاملة قرر بعدها منتجو الفيلم
و بعض أصدقاء رينوار تحرير العمل بعدما وضعت الحرب أوزارها و إطلاقه بالصورة
التي أنجزها رينوار في حينه .
ذلك الجزء الأوسط من الحكاية كان يفترض أن يحمل عمق الفيلم كله ، قصةٌ
معقدةٌ يستحقها المشاهد عن العلاقة العابرة التي لا تزول و الذكرى التي تحكمنا
لحظتها و ظروفها للأبد ، فكرته فاتنة و لا أستطيع أن أنكر أن رغبتي الخفية بوجوده
إستمرت معي في مشاهداتي الثلاث للفيلم ، مهما كانت الحقيقة فما يحققه رينوار هنا هو
شيءٌ عظيمٌ ، عظمته لا تكمن في وجود جزءٍ أوسط أو غيابه ، و إنما في القدرة التي
يظهرها في الإنتقال بالحكاية مباشرةً من (الحدث) إلى (الأثر) دون المرور بـ (العواقب) أو حتى التطرق
له بأي صورةٍ كانت و الحصول على نتيجةٍ بمثل تلك الفخامة ، من الغريب أن هذا
التفصيل تحديداً - و على خلاف ما يفترض بأن يصبح نقطة ضعف - يمنح عنصر الذاكرة
الذي يقوم عليه الإنتقال من الجزء الأول إلى الثالث فعاليةً قصوى ، لوحة الختام
هنا أشبه بسطرٍ يقول لنا (و لم تفارقهم ذكرى تلك النزهة أبداً) ، اللحظة الهامشية
العابرة التي بالرغم من هامشيتها لا تنسى ، و الحادثة التي تتحول إلى ماضٍ دون أن
تمضي .
في بنيته العامة يبدو العمل مثالاً سهل التذكر عن الإنطباعية في
السينما ، يغازل رينوار في بناء حكايته المدرسة الفنية التي انتمى اليها والده
التشكيلي أوغست رينوار ، لا يحكي لنا حكايةً تلامس العقل أو تحكّمه ، و
إنما يغازل فينا الأحاسيس البديهية التي يولدها فينا التمازج الحاصل بين الحكاية
المسرودة و الطبيعة التي تؤطرها و الأثر الذي نحصل عليه من تأمل بطله الذي لم ينجح
في علاقته السابقة و بطلته التي تكفي دموعها لإدراك صعوبة موقفٍ تختبر فيه مشاعرها
في مواجهة ارتباطٍ روتيني سيجمعها قريباً بشابٍ أخرق ، رينوار كما
الإنطباعيين يخاطب مشاعرنا فيما نرى ، يبدو تدفق حكايته و كأنما يخبرنا أن تحكيم
العقل فيما نشاهده سيجعله سخيفاً و مبتذلاً في نظرنا ، يجعل مشاعر الجمهور هي
الحكم على العلاقة التي يشاهدونها : قد تبدو لهم وضعاً جبرياً ، أو نزوة ، أو
عاطفة حقيقية ، أو خطأ عابراً ، أو مجرد لحظة تفريغ ، لا يهم ، هو تماماً كما
الإنطباعيين لا يهتم بما بين السطور و إنما يهتم فقط بالصورة الكبيرة التي نشاهدها
، يترك ما بين السطور لمشاهده وحده ، وراء ما يجري - على سبيل المثال – في الغابة
بين هنرييتا و هنري هناك مزيجٌ فاتنٌ - متروكٌ لخيال المشاهد – من التوق ، و
الرغبة ، و العاطفة ، و الخوف ، و الحزن ، و الألم ، و الندم المسبق ، ما يهم رينوار فقط هو
الصورة الكبيرة عن تلك اللحظة العابرة التي كانت يمكن أن تكون أبديةً لولا أننا
أدركنا منذ بدايتها و بمجرد حدوثها أنها لحظةٌ عابرة ، تماماً مثل النزهة ذاتها .
من أجل جعلنا نساير ما يريده يعتمد رينوار أولاً على حسٍ
كوميديٍ طفيف يطعم به الحدث خصوصاً من خلال تصرفات السيدة دوفو أو من
خلال ردود الفعل الخرقاء لأناتولي ، هذه الكوميديا تسير بالحدث إلى بقعةٍ مختلفةٍ عن
تلك التي سيصلها في الختام عندما يتحول إلى ذكرى مؤلمة ، و كأنما (لا توقيت متوقع للذكرى
التي تعيش معنا) ، و يعتمد ثانياً على ملامسة ثنائية العقل و القلب التي تحكم
الصراع بين الحصول على العاطفة و التفكير بالمسؤولية و تبعاتها ، مرةً من خلال
حوار هنري و رودولف أثناء تناول إفطارهما في مطعم بولان ، و مرةً من
خلال حوار هنرييتا و والدتها أثناء النزهة ، من أجل منح تفسيرٍ مقبول
للكيفية التي يسير عليها الحدث لاحقاً ، و يعتمد ثالثاً و بصورةٍ عظيمة على الولع
الذي يبديه تجاه التقاط الطبيعة ، هذا الفيلم نزهةٌ حقيقيةٌ تليق بإسمه ، صورته
الشاعرية تمنحه تماماً مذاق الذكرى الذي ينشده ، مشاهد الطبيعة فيه و تمازج بطليه
معها هو عمقه البصري الحقيقي ، الصورة التي ينزلان فيها إلى القارب و الصورة التي
نراهما عليها في الختام كلما تعمقوا في ذلك النهر وصولاً إلى عمق الطبيعة الفجة ،
حيث كل ما نشاهده هناك فطريٌ و غير مجملٍ أو مزيف ، تماماً كما هي المشاعر التي
تطفو على السطح حينها .
رينوار – الذي يساعده هنا جاك بيكير و لوتشينو فيسكونتي
– يثبت أي عظمةٍ يمتلكها ، إحساسنا البصري بالنزهة عظيم ، إحساسنا بالصباح ،
بإفطار هنري و رودولف ، بتبلد أناتولي ، بروح هنرييتا ، بزقزقة العصافير ، و ترقرق الماء ، الرابط البصري
الذي يصنعها رينوار معنا عظيم ، رجله الأول في ذلك هو إبن شقيقه مدير
التصوير كلود رينوار ، كاميرا رينوار غاية في الأناقة ، ثابتةٌ و واسعة الكادرات في التقاط
الطبيعة ، و مجنونةٌ و حيوية و تعشق الكلوز آب في التقاط الشخصيات ، لا شيء يعبّر
عن روح هنرييتا أكثر من كاميرا رينوار التي تنزلق
معها على الأرجوحة و تحلق معها حيث تحلق ، الكاميرا - بالحس الإنطباعي الذي يسيّر
عمل رينوار هنا - مولعةٌ بالصورة الكبيرة و لا تهتم للتفاصيل ،
نراها تلتقط بفضولٍ ودهشة فتنة الطبيعة أثناء رحلة النهر ، و تقترب من وجوه
الأبطال مع كل مرحلةٍ يقطعها القارب قبل أن تصل في الذروة إلى لقطةٍ مقربةٍ لوجه هنرييتا الذي
يحتضن دمعتها الساقطة ، رينوار يجعل كل مانراه معبراً و مؤثراً مهما كانت ضآلة حجمه ،
و التعبير الأخير على وجه سيلفيا باتاي عندما تقوم هنرييتا بتوديع هنري في لقائها الثاني به بعد سنوات هو واحدٌ من أجمل التعابير
الأدائية التي شاهدتها في حياتي : العاطفة و الذكرى و اليأس و الحزن و الضيق و
الحيرة و اللامبالاة ترتسم جميعها في ثانيتين فقط على وجهٍ بشري ، رينوار – و بحكم
الظروف الفنية و الانتاجية لهذا الفيلم – يبرهن برأيي هنا عن قيمته العظيمة كصانع
أفلام أكثر ربما من عمليه العظيمين في Grand Illusion و The Rules of the Game ، واحدٌ من أجمل الأفلام القصيرة التي قد تشاهدها في حياتك .
0 التعليقات :
إرسال تعليق