الاثنين، 6 أكتوبر 2014

This Is Spinal Tap

كتب : عماد العذري

التقييم : 5/5

بطولة : كريستوفر غيست ، مايكل ماكين ، هاري شيرر
إخراج : روب راينر (1984)

هذا هو الفيلم الوحيد على موقع imdb الشهير الذي يحصل على تقييم من 11 بدلاً من 10 تكريماً لعبارته الشهيرة These go to eleven التي تحوّلت إلى مثلٍ أمريكي و اختزلت بالرغم من بساطتها الكثير مما يمكن قوله عن هذه الفرقة : بساطتها و حماقتها و جهلها و زيفها و احساس السيطرة على الأمور الذي تحاول أن تكسو به تصرفاتها .

و بالرغم من أن هذا التقييم الممنوح تكريميٌ و ليس حقيقي ، إلا أنه يليق في سياقه بواحدٍ من أفضل الكوميديات التي صنعت عن العمل الفني (أو الشوبيز كوميدي) و من أفضل الكوميديات عموماً ، و هي كوميديا لا تستمد قيمتها من جودة ما تقدمه فحسب ، بل من أهمية الأثر الذي خلفته وراءها في تشكيل الملامح المكتملة للموكومنتري ، قبل هذا الفيلم كان الموكومنتري مجرد تجارب فرديةٍ حققها مخرجون أرادوا توظيف لغة الفيلم الوثائقي في تقديم أعمالٍ روائيةٍ كوميدية ، أبرز هذه التجارب كان عمل ريتشارد ليستر A Hard Day's Night و فيلم وودي آلن Zelig ، لكن تحوّل هذا الفيلم الى ما يشبه الظاهرة المصغرة حال اطلاقه ساهم في تقديمه كقالبٍ – نصيٍ و إخراجي – للعديد من الأعمال التي نهجت التوثيق لتقديم الكوميديا ، حتى أن كلمة موكومنتري ذاتها ظهرت في أدبيات السينما لأول مرة على يد روب راينر في معرض حديثه عن هذا الفيلم بعدما بقيت لسنوات حبيسة القواميس .

في الفيلم الذي كتب نصه و موسيقاه روب راينر و ممثلوه الثلاثة يتابع مخرجٌ يدعى مارتي دي بيرغي (تكريماً لمارتي و دي بالما و سبيلبيرغ) فرقة روك بريطانية تدعى Spinal Tap تعود إلى الولايات المتحدة بعد 15 عاماً على نجاحاتها ، يلاحق دي بيرغي (الذي يقوم بدوره راينر نفسه) أعضائها الثلاثة الرئيسيين ديفيد سانت هوبنز و نايغل تيفنل و ديريك سمولز على مشارف اطلاق البومهم الجديد (شمّ القفاز) ، يسبر ماضيهم و نشأتهم ، يتأمل في تطلعاتهم الإنبعاثية ، و يراقب فيهم عن كثب أسوأ ما يمكن أن يحصل لفرقة روك تحاول استعادة مجدٍ غابر : الغاء العروض ، و الخلافات ، و سوء التقدير ، و المشاكل التقنية على المسرح ، و فقدان الدعم من الجميع .

من خلال تلك المراقبة يتقدم الحدث بشكلٍ مؤلم بقدر ما هو مضحك ، نتأمل في تمسكهم بالأمل ، و في انقسامهم التدريجي على أنفسهم ، نلمح جهلهم النابع في جزءٍ منه من ثقتهم المتبقية بشعبيتهم ، و نشعر بالأسى و السخرية في الوقت ذاته و نحن نشاهد سيلاً لا يتوقف على مدار ساعةٍ و نصف من العبث و العشوائية التي سيطرت على حياتهم ، في تلاحق هذه الأحداث جميعها تكمن جودة النص الذي كتبه الأربعة لهذا الفيلم ، يستثمر ممثلوه الثلاثة عملهم مطلع حياتهم الفنية في فرق روك مختلفة و قربهم الشديد من المهنة ليسخروا من تفاصيلها الصغيرة دون أن يحرروا تلك السخرية من مذاق الأسى الذي يلتصق بها ، هذا جميلٌ جداً وفعالٌ في جعل الفيلم قابلاً للمشاهدة و الضحك مرةً تلو أخرى .

ذكاء هذا العمل برأيي يكمن في أنه يأخذ حيزه الزمني في مرحلة ما بعد الذروة الفنية ، على تخوم التلاشي ، هذه المرحلة تكون أقسى عملياً من مرحلة الأفول لأنها تلتقط فيهم شعور الخيبة و الإنكار و مسحة الأمل المتبقية ، تستخلص من مطاردتهم أكثر اللحظات الإنسانية بعيداً عن ماكياج الشهرة (الذي يطغى في الذروة الفنية) و رضا استذكار الماضي (الذي يستولي على مرحلة الأفول) ، نتأمل عالمهم - الصغير أصلاً - ينهار تدريجياً من حولهم فتتعاطف معهم حتى و أنت تضحك على آلامهم ، كوميديا الفيلم حقيقية ، ليست مدعية أو متسولة ، هو واحدٌ من أكثر الأفلام التي جعلتني أضحك عندما شاهدته أول مرة قبل سنوات ثم أعدته قبل أسبوع ، الكوميديا فيه – مثل تطورات أي نصٍ ذكي – تأتي من مفصل الحدث ذاته و لا يضعها الكاتب فيه ، تبحث عنها و تلتقطها و تضحك سعيداً بها ثم تتأمل في سياقها العام شعور الأسى الذي تولده ليس فقط تجاه هذه الفرقة ، بل تجاه كل صورةٍ جميلةٍ و براقةٍ ينخرها الزيف و الخواء و الإدعاء و الحماقة فيجعلها شيئاً مختلفاً تماماً .

و في نفس الوقت الذي تبدو فيه تفاصيل حياتهم مثاراً للسخرية لا يخفي العمل كم العاطفة الذي يؤطر علاقتهم بالموسيقى ، هم قبل كل شيء يقومون بما يحبون القيام به ، هذه العاطفة هي منبع الحاجز الذي يبقيهم بعيداً عن الإحترافية و النضج الفني ، لذلك لا يتيح النص لتلك العاطفة بالإستيلاء على الحكاية كي يحافظ على التناقض الذي يستكشفه ، يلامس حس التفلسف و البحث عن عمقٍ إفتراضيٍ لحياتهم ، الشعور الذي يدّعونه على الدوام و الذي لا يتيح لنا الفيلم الفرصة لإختبار تشكيكهم فيه أو حتى مراجعته ، هذا عظيم ، دائماً ما يكون الخواء و العبث كامناً في التفاصيل و ليس في الصورة الكبيرة ، عندما يكون في الصورة الكبيرة لا يستطيع أن يهجو أو يسخر لأنه يخسر توقع الجمهور الذي تفقده الصورة (الأحادية / الكبيرة / الساخرة) حماسه للإستكشاف و التأمل ، لذلك لا يقترب النص من الصورة الكبيرة ، يتركهم كما يروق لهم أن يبدوا للآخرين ، فرقة ناجحةً ذات ماضي تزور الولايات المتحدة ، يكثف جهوده فقط على سبر التفاصيل و جعلنا نسخر منها ، و هو توصيفٌ دقيقٌ لـ (الصورة الكبيرة) القائمة دائماً على الكثير من التفاصيل المناقضة لها ، لا وجود هنا للشرير و الخيّر ، لكن هناك الحقيقي و الزائف و المدّعي و الهش و المتلوّن و الضعيف ، سردٌ لا يقوم على حبكة أو حدث بل يقوم على تفاصيل ، لا يقوم على لوحة بل على القماش الذي صنعت منه اللوحة .

لا أقل من قيمة النص تأتي قيمة أبطال الفيلم الثلاثة الذين يحملون على عاتقهم – اكثر من التفاصيل التقنية للفيلم الوثائقي – مسؤولية جعل هذه الفرقة تبدو حقيقية ، هذا يتحقق بالفعل ، يذوبون تماماً في الأدوار لدرجةٍ تجعل من الصعب على المشاهد العادي فصلهم عن شخصياتهم ، هذا إذا سلّم اساساً بفكرة أنهم يؤدون أدواراً ، وجودهم و حضورهم و عفويتهم تصنع علاقةً وديةً جداً بين المشاهد و الشخصية و هذا يضرب في عمق التفسير المنطقي لشعبية هذه الفرقة و حضورها و قربها من القلب ، هم يجذبونك كأنك جزءٌ من جمهورهم ، ساهم في ذلك عملهم في الأساس على خطوطٍ عريضةٍ للسيناريو و ارتجالهم معظم حوارات الفيلم و بلهجةٍ بريطانيةٍ مميزة (هي ليست لهجتهم في الواقع) ، الأمر الذي زاد من حميمية الشخصيات و حقيقيتها وكوميديتها ، و جعل رد الفعل يبدو من صميم الشخصية التي لا يقدمها النص أساساً كشخصيةٍ مكتوبة و إنما كشيءٍ حقيقيٍ موضوعٍ تحت المجهر .

هذا الإرتجال – الذي أصبح بفضل الفيلم جزءاً لا يتجزأ من فن الموكومنتري – يدعمه روب راينر بعملٍ إيقاعيٍ ممتاز على الكاميرا المحمولة و المونتاج أصبح هو الآخر قالباً جاهزاً للموكومنتري ، صوّر روب راينر عشرات الساعات قبل أن يدخل غرفة المونتاج و هذا ما جعل تكثيف العمق المطلوب للعمل صعباً للغاية ، حتى اليوم ما زال هناك نسخٌ شعبيةٌ يتداولها محبو الفيلم تفوق مدتها الساعات الأربع ، روبرت لايتن في غرفة المونتاج يزيل فائض التصوير – القائم في الأساس على الإرتجال – ليجعل من هذه الساعة و النصف شيئاً ذو قيمة ، طريقته في القطع من مشهدٍ لآخر تجسّد النكتة حرفياً و أصبحت اليوم اشبه بطقسٍ من طقوس الموكومنتري ، القطع الفوري بمجرد إنتهاء الكلام و بالتالي إعطاء شعور الصدى في عقل المشاهد الذي يبتسم مع بدء المشهد التالي على الطرفة التي سمعها في نهاية المشهد السابق ، تجسيدٌ بصري للحظة الصمت الفاصلة بين سماع النكتة – إرسالها إلى الدماغ – ثم إعطاء الأمر بالضحك !

من المنطقي تفهم الحديث المطول الذي رافق اطلاق هذا الفيلم عن الإسقاطات التي قدمها لحياة عددٍ من نجوم الروك و النابع من استلهامه في سخريته لبعض المفارقات الغريبة في مسيرتهم ، هذا اثباتٌ برأيي على براعته ، الخطوط التي يمسك بها في توثيقه و تلك التي يرسلها تعمل على إشراكنا في ماضيهم بالمقدار الذي يحب ، و هذا ربما نقدٌ ذاتيٌ للأفلام الوثائقية عموماً و قدرتها على توجيه المشاهد كما تحب ، ماضيهم يوجّه درامياً و نعرف عنه ما يغني تقدم الحدث و يجعلنا نهتم به فقط ، كل هذا يتم في المساحة المشتركة بينهم و بين أي فرق روك اخرى : الحياة الصاخبة ، و ولع الوقوف على المسرح ، و نسبية النجاح ، و نقاط القيمة السوقية التي تزيد و تنخفض بسبب غلاف ألبوم أو مجسّم غريب يوضع على مسرح .


هناك تعليقان (2) :

  1. (وتضع آدا قدمها وسط الحبل الذي كان يربط البيانو فيجرها البيانو إلى الأعماق ، آدا تريد أن تستكمل توحدها مع البيانو حيث أنه ليس من العدل أن تحيا بدونه بينما هو يرقد صامتاً إلى الأبد ، بعد لحظات من الاستسلام ترفض آدا الموت وتتخلص من الحبل ، يتم تجهيز أصبع معدني ليد آدا حيث تعمل معلمة للبيانو وتبدأ كذلك في تعلم الكلام.)
    اشكرك جزيلا الشكر فقد حللت الفيلم بطريقة ممتازة
    واجبت لى على سؤال طالما سألته لنفسى وللأخريـــن
    هل فعلا تم سقوط آنا فى النهر و(ماتت)ام تم إنقاذها
    وما رايناهـ من بعض منظر السقوط كان حقيقيا
    وليس تخيلياً.
    فيلم عظيم لا أنساهـ ابدا ولا أعتقد ان أحداً شاهده
    ذات مرة من الممكن أن ينساهـــ .

    ردحذف
  2. تحليل أكثر من رائع للفيلم وما فيه
    مرة اخرى أ/عماد العذرى أحييك عليه

    ردحذف

Flag Counter