كتب : عماد العذري
التقييم : 5/5
بطولة : فيرنر كراوس ،
كونراد فايت ، فريدريتش فير
إخراج : روبرت فينه (1920)
البعض يعتبر هذا الفيلم أول فيلم رعبٍ مكتمل الملامح على اعتبار أنهم
يرون في التجارب التي سبقته مغازلاتٍ لسينما الرعب دون أن تكون تأسيساً لصنفٍ
مكتمل الملامح و الطقوس ، و هو رأيٌ لا يمكنني أن أتفق معه أو أختلف ، ما أنا
واثقٌ منه هو أن هذا الفيلم متواضع التكلفة و الذي كان أحد مشاريع الكبير فريتس لانغ هو
واحدٌ من أعظم منجزات التعبيرية الألمانية و واحدٌ من علامات السينما الكبرى و واحدٌ
من أكثر الأفلام أهميةً و تأثيراً على الإطلاق .
في هذا الفيلم الذي ذهب
لاحقاً لروبرت فينه بعد إعتذار لانغ لإنشغاله بتصوير
فيلمه The Spiders يحكي علينا كارل ماير و هانز يانوفيتش حكايةً - إستلهمها الأخير من كابوسٍ راوده و من
حادثةٍ كان شاهداً عليها – بطلها الدكتور كاليغاري خبير التنويم المغناطيسي الذي يصل إلى بلدةٍ
ألمانيةٍ صغيرةٍ رفقة رجله سيزار الخاضع للتنويم و الذي يقدم كاليغاري من خلاله
عروضاً خاصةً في كرنفال البلدة ، عندما تبدأ بعض جرائم القتل في تعكير الصفو .
عظمة هذا الفيلم تتفرع على محورين : الأول هو القفزة
المهمة التي حققها على مستوى السرد في فترةٍ لم تعتد السينما أن تقدم لجمهورها
قصصاً بهذا المستوى من التعقيد ، و الثاني هو المهرجان البصري الذي يحقق من خلاله فينه أول
إرساءٍ عظيمٍ و مكتمل الملامح لطقوس التعبيرية الألمانية بصورةٍ منحتها النقلة الحقيقية الأولى نحو
عالم السينما الوليد و هي النقلة التي سرعان ما انعكست على كم الأعمال العظيمة
التي قدمتها هذه المدرسة خلال السنوات القليلة التي أعقبت هذا الفيلم .
على المحور الأول سبق الفيلم زمنه بكثير ، قدم هذا العمل أول بنيةٍ
سرديةٍ تعتمد بشكل كاملٍ على الحكاية المؤطرة أو ما يعرف بالـ Frame Story حيث تقدم الحكاية داخل حكايةٍ أخرى ، و هذه البنية استدعت بالتأكيد
توظيفاً مختلفاً للفلاش باك جعل هذا الفيلم أول من استخدمه بشكلٍ كلي
لسرد حكايته بعدما كان مجرد أداةٍ متواضعة في فيلمٍ أو فيلمين سبقوه
لتقديمه ، الفلاش باك هنا هو الحكاية كلها و من خلالها تتحقق بنية السرد
القائمة على حكايةٍ تؤطر حكايةً أخرى ، فيلم فينه أتاح للسينما –
و لأول مرة - إختبار المستوى الجمالي لهذه الأداة و المدى الذي يمكن أن تبلغه في
أسر الذاكرة و الإسترسال فيها كعنصر بالغ الفعالية سبقها إليه الأدب بكافة صنوفه ،
هذا التوظيف الذي يحدث على مستويين من السرد (قصة كاليغاري ثم قصة المدير الذي
سيتحوّل إلى كاليغاري) جعل من بنية الحكاية المؤطرة جزءاً لا يتجزأ من عمق الفيلم ، و مع أن ذلك
حدث رغماً عن ماير و يانوفيتش و بناءً على مقترحٍ من لانغ تمسك به فينه و أضافه
إلى النص ، إلا أن ذلك التمسك حقق شيئاً إيجابياً للعمل ، منحه من ناحية القدرة
على تحقيق حالة الوهم و اللاواقع التي وظف من أجلها فينه رؤيته البصرية
الفريدة جداً للحكاية ، و حقق من خلاله ربما أول ملامسةٍ فعالةٍ لمفهوم (نسبية الحقيقة)
و إيصال شعورٍ يفتك بالمشاهد الذي لا يعلم على وجه الدقة حقيقة ما جرى و هل ما جرى
جرى فعلاً و هو المفهوم الذي تحوّل إلى ثيمٍ قصصيٍ على يد أكيرا كوراساوا
في Rashomon بعد ذلك بثلاثة عقود .
علاوةً على ذلك و في سياق السبق الزمني الذي يحققه الفيلم على صعيد بنيته
السردية يقدم هذا العمل ربما أول صورةٍ حقيقيةٍ مكتملة لمفهوم الـ Twist-End حيث ينتهي العمل
السينمائي بمفاجأةٍ أو صدمةٍ أو تحولٍ غير متوقعٍ أو غير منطقي ، و هي صورةٍ تفوق
جداً ما كان الجمهور البسيط يمكن أن ينتظره من شاشة السينما في العقود الأولى لهذا
الفن ، و هو هنا – بعد قرابة مائة عام – يتجاوز المفهوم المبهر – و الذي نعشقه – للتويست إند ،
لا يقدّمه فينه هنا للمتعة الخالصة بل لجعله يعيش و يؤثر و يضرب في صميم
عمق الحكاية عن أوهام العقل الباطن التي استقاها الكاتبان من روح التعبيرية الألمانية
كحركةٍ فنيةٍ قامت في الأساس نتيجة شعور الخيبة و المرارة و الإنكسار لدى الشعب الألماني
عقب الحرب العالمية الأولى كما يقول زيغفريد كراكاور في
كتابه الشهير From Caligari to Hitler و كرد فعلٍ ربما على الإنطباعية ، قامت الإنطباعية على تفسير الواقع الخارجي للفنان من خلال إنطباعاته و أحاسيسه الداخلية ،
بينما جاءت التعبيرية لتعبّر عن دواخل الفنان من خلال عالمه الخارجي و انفعالاته الظاهرة ، فقدّمت العاطفة على العقل
، و الوسيلة على الغاية ، و الرمزية على الحرفية ، و قامت بإلغاء التفسير الذاتي
للمشاعر من خلال تكثيف الشكل الخارجي للمشاعر (بصرياً / صوتياً / أدائياً)
في منحىً واضحٍ لا يحتمل الحياد ، و هذا ربما ما يفسّر النجاح الذي حظيت به التعبيرية في
فجر السينما عندما كان الوسيط الفني الوليد يفتقد لأحد أكثر عناصرها قدرةً على
تأطير تلك المشاعر (الحوار) ، هذه العناصر التي قامت عليها التعبيرية الألمانية
كثفها كاتبا النص ماير و يانوفيتش من أجل تقديم صورةٍ مختلفةٍ لألمانيا الجريحة من
ناحية ، و من أجل التعبير عن توجههم المناهض للسلطة ممثلةً في حكومة فايمار
القائمة حينها و هو ما جعل كراكاور في كتابه يميل لإعتبار كاليغاري استعارةً
ضمنيةً لها من خلال سلطويتها و تأثيرها الجارف و النتائج الكارثية التي خلفتها
ورائها و التلاعب بالروح الذي سيطرت به على الآخرين كطريقٍ ممهدٍ لصعود الرايخ الثالث
بعد 13 عاماً ، من هذا المنظور يمكن تفهم وجهة نظر كتاب السيناريو في اعتراضهم على
فكرة الحكاية المؤطرة و التويست إند التي قللت بشكلٍ واضحٍ من قيمة توجهاتهم السياسية المضمّنة
في الفيلم و صوّرت البطل في الختام مجرد شخصيةٍ مجنونة ، و هي ضريبةٌ ربما كان لا
بد منها مقابل القفزة السردية العظيمة التي حققها النص بفن كتابة السيناريو .
على المحور الثاني كان العمل سابقاً لعصره بقصه شريط التعبيرية الألمانية
سينمائياً و هو الباب الذي فتح على عاصفةٍ من الكلاسيكيات السينمائية التي لم تكتفِ
بأن جاءت من رحم البيئة الزمانية و المكانية و الظرفية لها – كأي حركةٍ أو مدرسةٍ
أدبيةٍ أو فنية – بل سرعان ما حققت مدّاً عالمياً أثر كثيراً على السينما
الأوروبية و بلغ منتهى تأثيرها في تشكيل الثيم البصري للفيلم النوار ، كثّف
فينه مبادىء التعبيرية من خلال خلقه لعالمٍ مختلفٍ بالكامل على
صعيد بنيته البصرية ، عالم لا يشبه عالمنا مطلقاً ، و هو تفصيلٌ لم تقارعه فيه أهم
الإنجازات السينمائية للتعبيرية الألمانية لاحقاً ، كان هذا العمل أول توظيف حقيقيٍ
مكتمل لـ (الصورة) في التعبير عن الحكاية ، قبله كانت الصورة وسيلةٍ لسرد الحكاية
، أصبحت الصورة هنا جزءاً من السرد ذاته في الحالة الأولى التي يدرك فيها العاملون
على هذا الوسيط الفني الوليد قدرة الصورة على تجسيد الحكاية ، إستخدم فينه بشكلٍ
مكثف الـ Iris Shot لخلق إحساسٍ حقيقيٍ بالذكرى و
مذاقٍ بصريٍ مختلف لمن يطل من خلال الصندوق السحري على عالمٍ غريبٍ لا يعرفه ، أدرك مبكراً قيمة الكلوز آب كنعصرٍ
فعال في التقاط التفاصيل يغني بصورةٍ بديهية الطقوس البصرية للتعبيرية القائمة على
تكثيف الماديات و المحسوسات ، ثم خلق ذلك العالم الغريب من خلال أفكار المصمم هيرمان وورم الذي استخدم
مواقع تصويرٍ مصممةٍ بالكامل و عدداً وافراً من اللوحات الحائطية لتوليد شعور
الإبحار في المتاهة العقلية للراوي و الذي يزيد بصورةٍ أو بأخرى من تعقيد حكايته ،
رسم الضوء و الظلال على الأرضيات و الخلفيات ، صمم الأشجار و الجدران و النوافذ و
الطرقات بصورةٍ يكثف ميلانُها و حديةُ حوافها من الإحساس بالمتاهة ، و مزج ذلك مع
طبيعة شخصياته و فلاتر المشهد (بلونين : سيبيا و أزرق لتفسير إضاءة المشهد أو إعتامه) كإنعكاس للحالة النفسية
المتولدة ، شخصية جين على سبيل المثال هي البعد الرومانسي للحكاية و التي تُكسر
من أجلها الشروط البصرية التي تحكم العمل ، وجودها في الحكاية ناعمٌ جداً كما هو
حال منزلها لطيف التصميم و الفلتر الوردي الذي يختص بها وحدها ، ماكياج سيزار
بالمقابل يضع الكثير من السواد حول عينيه للتعبير عن فترة نومه الطويلة ، لا تحاول
الكاميرا التقاطه في لقطاتٍ مقربة كتعبيرٍ عن ابتعاد النص عن محاولة الإقتراب منه
نفسياً لأنه ليس عمق الحكاية ، سيزار ليس وحش فرانكنشتين ، هو كابوس صنعه كاليغاري من خلال
التلاعب بطبيعته ، مشكلته مع كاليغاري هي العبث بطبيعته ، وحش فرانكنشتين هو وحشٌ بطبيعته ، مشكلته مع الدكتور فرانكنشتين
هي وجوده بحد ذاته ، لذلك تأخذ قصة فرانكنشتين منحىً أكثر انسانية و يأسر الوحش
اهتمامنا هناك ، بينما يستولي الصانع ذاته على الحكاية هنا ، هذا التفصيل يغذى بصرياً بصورةٍ
مسرفة ، تستلذ الصورة بإلتقاط كاليغاري ، حركته البطيئة المتدحرجة ، خبثه ، نظرات عينيه ،
ضحكته ، بينما لا يبقى في ذاكرتنا من سيزار سوى الصورة الكابوسية له برداءه الأسود و جسمه الرفيع .
هذا فيلمٌ عظيمٌ و ثوريٌ و سابقٌ لزمانه ، في ساعةٍ و ربع قدم للسينما
الحكاية المؤطرة و السرد من خلال الفلاش باك و التويست إند و استخدم
تخمة الصورة و حديتها للتعبير عن الحكاية بدلاً من مجرد سردها ، نجاحه كان بالغ
الأثر على طقوس فيلم النوار ، تماماً كما كان بالغ الأهمية لطابورٍ من صناع
السينما تأثروا به و استلهموا عناصر عظمته ، إبتداءً عند مورناو و إنتهاءً عند
تيم بيرتن .
0 التعليقات :
إرسال تعليق