كتب : عماد العذري
التقييم : 4/5
بطولة : إيف مونتان ، إيرين باباس ،
جان لوي ترانتينيان
إخراج : كوستا غافراس (1969)
جاء العمل الروائي الثالث في مسيرة اليوناني كوستا غافراس بعد
ثلاثة أعوامٍ فقط على تحفة جيلو بونتيكورفو The
Battle of Algiers ، تناول الفيلمان مواضيع الحرية و القمع السياسي في حكايتين مختلفتي
الروح و العقل تلتقيان حول وطنٍ ضائعٍ ، مرةً بيد أبنائه و مرةً بيد غاصبيه ، اليوم
لا تذكر الإثارة السياسية في السينما إلا و يذكر هذان الفيلمان قبل أي شيءٍ آخر .
يفتتح غافراس هذا الفيلم بتنبيه المشاهد لأي تشابهٍ بين أحداث فيلمه
و أحداثٍ حقيقية ، تأكيدٌ مبكر على أن الموضوع الذي يتناوله هو ذات الموضوع الذي
قد يتوارد إلى ذهن المشاهد في تلك الحقبة ، الأحداث السياسية المؤسفة التي أعقبت
إغتيال داعية السلام اليوناني غريغوريس لامبراكيس عام 1963 على يد
متطرفين يمينيين مدفوعين من شخصياتٍ نافذةٍ في سلك الشرطة والتي انتهت تداعياتها
بالإنقلاب العسكري الذي حدث عام 1967 .
هنا سيحكي لنا غافراس قصة زي ، البروفسور المعروف و الزعيم اليساري الذي يعتزم إلقاء
خطبةٍ سياسيةٍ مناهضةٍ للتسلح النووي ، عقب الخطاب يتعرض زي لهجومٍ في ميدان عام
من قبل متطرفين يمينيين على مرأى من حشود الشرطة المكلفة بتأمين الحدث ، الهجوم
يكون قاتلاً و الشرطة تدعي أن ما جرى مجرد حادثة ، لكن صحفياً متحمساً لسبق و قاضي
تحقيقٍ لا يساوم يجدان في بحثهما أن الأمور أعقد بكثير مما تبدو عليه .
سيناريو الفيلم - الذي كتبه خورخي سيمبرون رفقة غافراس عن روايةٍ حملت الإسم ذاته لفاسيليس فاسيليكوس –
تقليديٌ جداً على صعيد هيكله العام ، ثلاث حركاتٍ تقليدية حتى على صعيد حيزها
الزمني ، حركةٌ أولى متوسطة ، ثم ثانية خاطفة ، و ثالثة تحتل نصف مدة الفيلم
تقريباً ، لا مكان و لا زمان محددين بدقة ، لا توجد حتى أسماءٌ حقيقية ، حتى تلك
التي تذكر تكون أشبه بأسماءٍ هزلية ، هناك الكولونيل و الجنرال و المدام و القاضي و النائب العام و الشاهد ، هذا التفصيل يحاول سيمبرون و غافراس من
خلاله إعطاء الحكاية مساحة تعبيرٍ أوسع من خلال تحريرها من قيود الشخصيات و تحركها
ضمن البعدين الزماني و المكاني ليصبح العمل أقرب إلى هجائيةٍ سياسية عن قمع الدولة
و الحكومات الشمولية ، إلى حدٍ ما يكون هذا فعالاً لأنه يتمكن بنجاح من خلاله من
تقديم كل ما يمكن مشاهدته في المطبخ السياسي : اليمين و اليسار ، الإضطرابات
الإجتماعية ، الحشود ، التضييق ، القمع ، اللوبيات
، المنظمات السرية ، الرسائل المبطنة ، أوراق الضغط ، التهديد ، الإغتيال ، تزوير
الحقائق ، و حتى الفساد السياسي ، وصولاً إلى الإنقلاب العسكري ، مع
ذلك يتأثر هذا البعد الهجائي أحياناً بحسٍ كوميديٍ خاطف يوجده النص في بعض شخصياته
، كما نرى مثلاً في شهادة صاحب الورشة أثناء التحقيق معه في المستشفى ، أو في ردود
فعل الجنرالات أثناء توجيه تهمة القتل العمد إليهم قرب الختام ، هذا يهز إيقاع
الفيلم القائم على الكثير من الجدية في التعامل مع الحدث ، و إن كان تدفق الحدث - الذي
لا يتوقف تقريباً - يخفف من تأثير ذلك .
يحاول غافراس أيضاً أن يقدم بعض التفاصيل الجانبية لشخصياته دون أن
يمنح لتلك التفاصيل قيمةً و معنى ، التفصيل الجيد يستمد قيمته دائماً من بعدٍ ما في (الشخصية) أو (الحدث) يحاول
ذلك التفصيل ربطنا به بهدف إغناء الشخصية أو الحدث أو كليهما ، بعض تفاصيل الفيلم لا
تحقق ذلك ، هذه الجزئية تبرز بشكلٍ أوضح في الفلاشباكات الخاطفة من ماضي البروفسور
مع زوجته و هما شخصيتان لم نتورط معهما بالشكل الكافي لإعتبار تلك التفاصيل مهمةً
لنا ، أو لم نجد الوقت الكافي للتورط معها أساساً ، والد قاضي التحقيق كان يشغل
المنصب ذاته فيما مضى ، صاحب الورشة يدفع للشهادة بدافع الغيرة و يختلف مع شقيقته التي
حصلت على وظيفتها من انتسابها لليمين ، و فاغو المجرم هو شاذٌ جنسياً ، تفاصيل ربما كانت لتكتسب قيمةً
أكبر في عملٍ لا يجرد حكايته مبكراً من الزمان و المكان ليمنحها متسعاً من التعبير
عن حكايةٍ عالميةٍ تتكرر في واقعنا كل يوم ، (خصوصية) التفاصيل لا
تفيد (عمومية) الحكاية في شيءٍ هنا .
بعض تلك التفاصيل لا يكتفي بأنه (لا يغني) بل أنه قد (يضعف) سلاسة
تقبل المشاهد للحكاية ، أن تشاهد مثلاً جنرالاً في الشرطة يزور شاهداً في المستشفى
لثنيه عن شهادته ، أو تشاهد كولونيلاً يتفاوض مع عامل توصيل على جريمة قتل ، أو
تشاهد كليهما في مسرح الجريمة يراقبان الحدث أمام الجميع ، تفاصيل ستمر لكنها
بالتأكيد لن تشعر المشاهد بالراحة ، بعض تلك التفاصيل يتحملها النص ، و بعضها
يتحملها غافراس المخرج ، خصوصاً في إدارة المكان في مشاهد الإحتجاجات مطلع
الفيلم ، نشعر بسذاجة تعامل زي و مرافقيه مع التهديدات و غوغائية ما يحدث ، إما أن النص
كتب الحدث بطريقةٍ تجعله يبدو ساذجاً ، أو أن غافراس جعله يبدو
كذلك في الشريط المصور ، الطريقة التي يمر بها زي في مواجهة الحشود مبتعداً
عن مرافقيه تبدو غير منطقية ، و تعامل مرافقيه مع مروره يزيد ذلك غرابة ، لذلك لا
يبدو الحدث الرئيسي (الحركة الثانية من السيناريو) مريحاً للمشاهد ، و هذه
التفاصيل (الدرامية / التقنية) على قلتها هي ما تجعل من The Battle of
Algiers برأيي
تحفةً سينمائيةً في نوعها .
بالرغم من ذلك لا يمكن انكار التدفق المدروس للحدث في الحركة الثالثة
، إثارة الفيلم ترتفع و لا تتوقف لإلتقاط الأنفاس ، نطاق الحدث يتسع كما هي رؤيتنا
في عمق الحكاية ، تبدو الصورة العامة للفيلم شبيهة بصورة (الرواية الرسمية) التي
نسمعها في التلفاز بعد أي حادثة ، ثم لا نلبث بمرور الأيام أن نكتشف الحقيقة تلو
الأخرى التي تحيل تلك (الرواية الرسمية) إلى شيءٍ مختلفٍ تماماً عما بدت عليه في
البداية ، هذا يتحقق على الشاشة بإمتياز يستحق التقدير ، غافراس يضبط إيقاع
حكايته بصورةٍ تنعكس حتى على قيمة الأداء التصويري لراؤول كوتار (مصور
الموجة الفرنسية الأشهر) و الأداء المونتاجي لفرانسواز بونو (التي
تفوز بالأوسكار هنا) و اللتين لا تجدان المساحة الكافية للبروز في النصف الأول من
الفيلم ، و بالتأكيد يحسب لغافراس أداءان رائعان من إيف مونتان و جان لوي ترانتينيان
، و عمقٌ - لا وجود فعلي له - تمنحه الكبيرة إيرين باباس لشخصية هيلين في دورٍ
محدودٍ جداً و كلماتٍ لا تتجاوز أصابع اليد .
وضع هذا الفيلم غافراس على أول طريق المجد ، حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً في فرنسا و الولايات المتحدة
، و كان أول فيلمٍ على الإطلاق يرشح لأوسكاري أفضل فيلم و أفضل فيلم أجنبي ، فيلمٌ
مهم في (صورةٍ) هي مزيجٌ من إيقاع فيلم بونتيكورفو و تأثير الموجة و روح ميلفيل ، تحكي
(حكايةً) ظاهرها التداعيات القانونية في أعقاب اغتيال شخصيةٍ
سياسيةٍ بارزة ، وباطنها نظرةٌ في عمق الحكومات الشمولية ، و في الحرية التي لا
تحتاج لحماية لأن الخطر الأكبر على الحرية – أي حرية – يأتي دائماً من أولئك الذين
يحمونها .
0 التعليقات :
إرسال تعليق