كتب : عماد العذري
التقييم : 4/5
بطولة : كلارك غيبل ، كلوديت كولبير
إخراج : فرانك كابرا (1934)
عندما يتذكر المهتمون هذا الفيلم يتذكرون أهميته و قيمته و أثره
البالغ في ترسيخ السكروبول كوميدي (أو سينما الحماقات و التهريج) التي كان أول من وضع
الملامح المكتملة لها استناداً لعمليةٍ تراكميةٍ بدأت بكوميديات فجر السينما الأول
و استندت في خطوطها العريضة لملاهي ويليام شكسبير التي تأثرت بصورةٍ أو بأخرى بالأدب الإغريقي القديم !
طريقٌ طويل مرت به الكوميديا حتى ظهور السكروبول كوميدي على
شاشة السينما ، و بالرغم من هذا الطريق الطويل إلا أن الشرارة التي جعلت هذه
النوعية من الأعمال واقعاً ملموساً ملأ الشاشة الهوليوودية لعقدين من الزمان كان
الكساد الكبير الذي ضرب أميركا في الثلاثينيات ، في تلك الحقبة من المعاناة
المادية لشرائح واسعةٍ من الشعب عانت السينما كثيراً من أجل جلب المشاهدين إلى دور
العرض ، كان على الستوديوهات أن تفكر خارج الصندوق ، و لم يكن انسب لذلك من
الكوميديا ، كانت الكوميديا على مدار العصور وسيلةً مثاليةً لينسى الشارع همومه ،
أو يضحك عليها ، السكروبول حررت الكوميديا حتى من ذلك ، و بالرغم من أن ملامحها
بدأت في التشكل مطلع الثلاثينيات إلا أنها تدين لهذا الفيلم تحديداً بتحولها إلى
نوعٍ سينمائيٍ مكتمل الأركان و الملامح .
نص الفيلم كتبه فرانك كابرا و روبرت ريسكن عن قصةٍ قصيرةٍ لصموئيل هوبكنز آدامز ، يحكي حكايةً عن إيلي أندروز ، الفتاة
المدللة و إبنة أحد أثرياء أميركا التي توشك على الزواج رغماً عنه من طيارٍ وصوليٍ
وسيم ، لمنعها من ذلك يحتجزها والدها على متن يخته لكنها تفر منه سباحةً و تأخذ
أول حافلةٍ إلى نيويورك للقاء حبيبها ، في الحافلة تتقاسم المقعد – بعد جدالٍ طويل
– مع مراسلٍ صحفيٍ يدعى بيتر وارن سرعان ما يكتشف حقيقتها ليعقد معها صفقته الصحفية الأهم .
الحكاية بحد ذاتها كافيةٌ لتفسير قولنا أن السكروبول تدين لهذا
الفيلم ، كابرا وضع في هذا العمل اسس نوعٍ مختلفٍ تماماً من الكوميديا
قائمٍ في حكايته المحور على علاقة إمرأةٍ برجل خارج السياق التقليدي للقصة
العاطفية ، تقوم هذه العلاقة على تحدي المفهوم السائد للذكورة فتشبع بعددٍ من
المشاحنات و التحديات و الخدع و روح الدعابة على طول الخط ، محرك هذه العلاقة يقوم
في أغلب الحالات على زواجٍ تم / سيتم / لم يتم / لن يتم ، على هامش الحكاية
المحورية هناك شخصياتٌ ثانويةٌ تشبه شخصيات الأفلام النوار تحرّك إثارة الحدث كلما
فترت ، و هناك الكثير من المفارقات الغريبة و سوء الفهم و التلاعب اللفظي و بديهة
الرد ، و بالتأكيد رشةٌ من النقد المجتمعي هدفه مغازلة الجمهور الراغب بتوجيه بعض
الإنتقادات لحياة الطبقة الغنية ، كابرا جمع كل ذلك و وضعه في فيلمٍ حوّله فوزه
بالأوسكارات الخمسة الرئيسية – الأول بين ثلاثة أفلامٍ فعلتها – إلى نوعٍ سينمائيٍ
قائمٍ بذاته سرعان ما قدم للسينما كلاسيكيات My Man Godfrey و The Philadelphia Story و Bringing Up Baby و His Girl Friday ، و مع ذلك لا أميل
لإعتبار هذا الفيلم أعظم أفلام النوع كما يرى البعض ، برأيي أن السكروبول كوميدي
بقدر ما دان له بالإنطلاقة إلا أنه استفاد كثيراً من اعمال مخرجين كثر تعاقبوا على
النوع و أغنوه ، تدفق الحكاية معهم أصبح أفضل و أكثر تكثيفاً و تخلصاً من
الثانويات ، زاد التركيز على مواطن القوة مثل سرعة البديهة الحوارية و الغنى
بالتفاصيل التي تُترك للمشاهد لإلتقاطها ، و خفف من نقاط الضعف كفتور الإيقاع أو
سير الحدث كما ينتظره الجمهور .
في العمق ترتكز المشاحنات التي يقدمها نص كابرا و ريسكن هنا لأبعادٍ
نفسية : الإعتقاد المستمر بأننا على صواب / حس الإضطهاد الذي نعانيه من الآخرين في
قراراتنا المصيرية / أزلية التمسك بالرأي الآتية من اعتقادنا الدائم أننا نعرف كل
شيء عن أي شيء / و بالتأكيد الفجوة غير المدركة بين العقل و العاطفة ، الفيلم
يستند في مشاحنات حكايته لتلك الابعاد سردياً ، لكنه لا يقدم معالجةً لها كأفكار
تستحق البناء عليها ، و بالرغم من أن ذلك يفقده ميزة الحصول على (نصٍ ثانويٍ) قوي
يجعله أغنى و أكثر ديمومة لكنه يجنبه الإضرار بطبيعته ككوميديا رومانسية ، و هذا
بحد ذاته اصبح شبيهاً بالقالب الذي استمرت عليه السكروبول كوميدي من
بعده ، النص يكثف تلك المشاحنات لصناعة سلسلةٍ متواليةٍ من المفارقات تغني
كوميديته بصورةٍ فعالةٍ و من الصعوبة جداً إنكارها ، يقر كابرا هنا بشكل واضح أنه
ليس مخرجاً نخبوياً و لا يحب أن يتخلى عن المفهوم التقليدي للحكاية الشعبية في
عصره – بالرغم من أنه فعل ذلك بعظمة في It's a Wonderful
Life – لذلك لا يُحمّل حكايته أكبر مما يستطيع – و ليس أكبر مما تحتمل – يترك
الكوميديا تتسيد الموقف ، يغازل ولع الجمهور برؤية نسخةٍ معاصرةٍ من (ترويض الشرسة)
خصوصاً عندما لا تنتمي تلك الشرسة للطبقة التي طحنها الكساد الكبير ، و لا يتوانى
عن نثر تلميحاتٍ واضحةٍ عن الجوع و تقلص فرص العمل و التباين الطبقي ليؤكد صورته
كفيلمٍ ينتمي لحقبته .
و بالرغم من فعالية ذلك إلا أن النص يعاني من مشكلةٍ في الإنجذاب
العاطفي الذي يحكم شخصيتيه ، و الذي لا يكون متسقاً تماماً مع إيقاع الحكاية ،
فيأتي مندفعاً و غير مؤقتٍ بصورةٍ دقيقة ، لذلك لا تروقني الكيفية التي يحصل بها اعتراف
إيلي بحبها لبيتر و أجدها خارج السياق ، علاوةً على أن تلك الجزئية تكتمل
بأن تسير الحكاية كما يريدها المشاهد تماماً فتتخلى إيلي عن زواجها في اللحظة
الأخيرة ، و هو تفصيلٌ تحول إلى ما يشبه التقليد لدى أفلام هذا النوع ، لكن نخبتها
استطاعت أن تجعله منطقياً و مبرراً بصورةٍ أفضل عندما يحدث .
خفة الحكاية على هذا الصعيد يعوضها العمل الإخراجي لكابرا الذي عانى
مشاكل عديدة كانت ستزيد لو لم يطلق الفيلم قبل خمسة أشهرٍ فقط على قانون هايز ، رُفِض
الدوران الرئيسيان في الفيلم من قبل عددٍ كبيرٍ من نجوم هوليوود حينها مما دفع كولومبيا بيكتشرز
لإستعارة كلارك غيبل من MGM و كلوديت كولبير
من بارامونت ، كلا النجمين لم يكونا راضيين عن النص ، و لم يكونا
راضيين عن بعضهما البعض ، بل أن كولبير اعتبرته لاحقاً أسوأ فيلم قامت ببطولته و حزمت حقائبها
للسفر في اجازةٍ يوم حفل الأوسكار لدرجةٍ دفعت القيمين على الحفل لإحضارها بحقيبتها
من محطة القطار لتتسلم جائزتها ، ربما هي أسوأ الظروف الممكنة لتنتج عملاً
كوميدياً ، لكن كابرا فعل ، صحيح أن الرجل لا يقدم الجديد مطلقاً على صعيد التكنيك
الإخراجي – و لا يمكن وصف أي سكروبول كوميدي بأنها فعلت – لكنه يعوّض ذلك من خلال إخراج افضل
ما لدى غيبل و كولبير ، ساير غطرستهم و نجوميتهم و نفورهم من بعضهم و استغلها
لصالح حكايته عن شخصين متنافرين ، يكفي ان تعلم انه ابتكر (أسوار أريحا) مثلاً
للإلتفاف على رفض كولبير خلع ملابسها في المشهد ! ، كابرا تفهّم بشكلٍ ممتاز
كاريزما بطليه و جاذبيتهم فجعلهم مرجع الإهتمام عندما يفتر الحدث ، تلك الكاريزما
هي من تجعل الحكاية تسير بسلاسة عندما لا تكون كذلك على الورق ، تدفعها بلطف نحو
الأمام و دون شعورٍ بالإبتذال حتى عند الشعور بخفة الحكاية ، هذا برأيي هو ما جعل
كوميديا الفيلم مقاومةً للزمن ، دائماً يتغيّر ما يضحك الناس بمرور الزمن و هذا ما
يجعل الكوميديا أكثر الأصناف صعوبةً في القدرة على الصمود ، كوميديا هذا الفيلم
صمدت بقوة و بلغت عامها الثمانين الآن ، من السخرية و العبث – في سكروبول كوميدي
تقوم على السخرية و العبث – أن هذا الفيلم كان عملاً سينمائياً مفضلاً لديكتاتورين
مثل هتلر و ستالين !
0 التعليقات :
إرسال تعليق