كتب : عماد العذري
التقييم : 4.5/5
بطولة : جون ميلز ، ألك غينيس ، أنتوني
واغر
إخراج : ديفيد لين (1946)
على مدار تاريخ السينما كان الأدب هو المعضلة الأبرز ، المزايا التي وفرها
و استطاع من خلالها التعاملَ مع الجمهور في الموضع ذاته الذي عجزت السينما عن
التعامل معه ، لذلك أصبح من الملفت الحصول على اقتباسٍ سينمائيٍ جيد لعملٍ أدبيٍ
مهم ، ميزة الإقتباسات العظيمة أنها قادرة على إثبات قيمتها بمفردها حتى لعشاق العمل
الأدبي مهما كان كلاسيكياً و معروفاً ، هذا الفيلم يفعل ذلك .
على مدار ستة أسابيع صوّر ديفيد لين خامس أفلامه مباشرةً بعد النجاح الكبير لرائعته Brief Encounter مقتبساً كلاسيكية تشارلز ديكنز أو على وجه الدقة مقتبساً المسرحية الناجحة المقتبسة
عنها و التي لاقت رواجاً كبيراً عند عرضها في بريطانيا في تلك الفترة ، و هو توجهٌ
يبدو غريباً اليوم بالنظر لحقيقة أن ديفيد لين كان بعيداً كل البعد عن الأدب الديكنزي طوال حياته
الخاصة ، غرابةٌ تزداد عندما يتبع الرجل نجاحه في هذا الفيلم بنجاحٍ آخر مع ديكنز في Oliver Twist بعد عامين ، الشيء الوحيد غير المستغرب هنا أن ديفيد لين كان
عظيماً في النصف الأول من مسيرته التي انحرفت في نصفها الثاني نحو تقديم الملاحم
السينمائية الفخمة التي ارتبطت بإسمه حتى اليوم .
الحكاية – كما يعرفها قراء العمل الأدبي – تأخذ منظور الراوي ، بيب ، فتى من
أسرةٍ متواضعةٍ تعيش في روتشستر ، يحظى بيب في طفولته برعاية أرملةٍ غامضةٍ تدعى السيدة هافيشام
و سرعان ما يقع بحب ربيبتها الجميلة إستيلا التي لا توليه اهتماماً ، في سن الرابعة عشرة يعود بيب إلى
عائلته ليتعلم الحدادة قبل أن ينتقل إلى لندن – بمكرمةٍ من شخصٍ مجهول – لينال العلم
و المعرفة و يصبح جنتلماناً .
قيمة هذا النص أنه يعيد تشكيل الصورة التي يفترض أننا شكلناها للرواية
، ليس على صعيد السرد أو الحدث و إنما على صعيد الشكل و التكثيف ، يرسل منظور
الراوي إلى الخلفية حتى لا يكاد المشاهد يشعر بوجوده ، و يخفف من حدة الطابع
الديكنزي للسرد و القائم دائماً على العاطفة و الميلودراما و حيث يتحرك الحدث
أحياناً بناءً على مصادفاتٍ غريبة و تفاصيل عابرة ، لا يزيل النص هذه الجزئية
لكنها لا تعود صارخةً كما هي لدى ديكنز ، و في الوقت ذاته هو يضع النقد المجتمعي المعتاد في أدب
ديكنز في الخلفية البعيدة للحدث و يكثف عمله على دراسة التغيرات
التي تصيب شخصية بيب المنتقلة من تواضع المنشأ و بساطة الريف إلى بريق المستقبل
و أضواء المدينة موازنةً فيها بين إرث الأول و أثر الثاني .
أعظم ما في هذا النص هو تخلصه المدروس من الحبكات الثانوية دون أن
يقطع صلاتها بالحكاية الرئيسية مخلفاً فراغاتٍ تهز قيمته ، هذا فعال بطريقةٍ لن
يقدرها سوى قراء العمل الأدبي ، لذلك لن ترى من شخصيات هافيشام و إستيلا و ماغويتش و هربرت و جو و المحامي جاغرز
سوى الجزء الذي يغذي محور السرد السينمائي (بيب) ، العمل في
جوهره هو عن العلاقات الفطرية التي شكلناها ، نمت و كبرت معنا و كانت
دائماً هناك في كل منعطفٍ من حياتنا ، لا يفقد النص امساكه بهذه الجزئية أبداً ،
تبقى محور مراقبته لبيب منذ البداية و حتى الختام و من خلالها يرتبط بجو و هربرت و إستيلا و هافيشام ، كل
ذلك يحركه الماضي دائماً ، تشعر بأن الماضي هو شخصيةٌ إضافيةٌ في الفيلم منذ اللحظة
الأولى لبيب في المقبرة ، يمنح لين للمشهد فعاليةً
اضافية من خلال الجو القوطي الذي يضفيه عليه ، لا يجعل المشاهد – خصوصاً ذلك
الغريب عن الرواية – يشعر بأنه مشهدٌ عابر أو افتتاحي ، الماضي هو روح العمل ككل ،
لا يتورع عن التدخل في جميع مفاصل حياتنا : علاقة بيب بماغويتش ،
علاقة بيب بهافيشام و إستيلا ، مبارزة الأيدي التي تحولت إلى علاقةٍ صداقةٍ طويلةٍ
بين بيب و هربرت ، و حتى علاقة المجرمين ببعضهما ، وحدها علاقة بيب بزوج
شقيقته جو من كانت تحتاج لعنايةٍ خاصةٍ من النص ، حتى من منظور
المشاهد العادي الذي لم يقرأ العمل الأدبي تبدو العلاقة منقوصةً القيمة ، تلامس
بخجل الأثر الذي ولدته رعاية جو الطويلة لبيب و التطورات التي رافقت علاقتهما على مدار سنوات .
في العمق يقدم النص في بيب شخصيةً حقيقيةً من لحمٍ و دم ، فيها صدق الريف و نبل
الإنسان الذي أنقذ محتاجاً ذات يوم و في الوقت ذاته الرغبة المعجونة بالطموح تجاه
أن يصبح سيداً محترماً له قيمته في المجتمع ، النص يتعامل كما ارادت الرواية أن
تتعامل مع روح بيب ، رحلتها الموزاييكية ، إيجابيتها الدائمة ، احساسها الذي
لا يتوقف تجاه إستيلا ، و المكانة التي تحتلها لدى السيدة هافيشام بكل
جنونها و غموضها ، (من ناحية) هو يوظف ذلك ليخدم قيمة الماضي في تشكيل الشخصية –
أي شخصية – و الأثر الذي يخلفه ارتباطنا الدائم به ، و معنى أن نمنح الماضي قيمةً
تفوق وجوده كذكرى ، فيسيّر حاضرنا و يستولي عليه ، و المشهد العظيم لفتح ستائر
المنزل هو خلاصة الحكاية على هذا الصعيد : نهاية عالمٍ بكامله استولى على منزل هافيشام
لسنواتٍ طوال ، و (من ناحيةٍ أخرى) يجيد التقاط التطورات التي طرأت على شخصية بيب بعناية و
يقدمها بشكلٍ جيد ، بيب يتغير تدريجياً تجاه ماضيه لكن دون رعونة لأنه فتى طيب في
جوهره ، ينظر النص بعمق في شخصية بيب كما أراد العمل الأدبي أن يخبرنا : بيب لم يكن
يحتاج لهذه الرحلة الطويلة نحو المدينة ليصبح رجلاً و جنتلماناً ، لأنه رجلٌ منذ
البداية ، ندرك منذ المشهد الإفتتاحي أنه شخصٌ يمكن الإعتماد عليه ، ربما يفتقد
للمظهر الملائم ، لا يمارس سلوكيات السادة ، لا يمتلك المال الكافي للإنفاق على كل
ذلك ، لكن النبل يجري في دمه ، شكّل الماضي كل أوجه حياته ، لكنه بقي بيب الذي
عرفناه في البداية .
بذات العناية التي أدرك بهالنص روح العمل الأدبي يثبت ديفيد لين أنه
مخرجٌ كبير ، ينجز هنا برأيي أفضل اقتباسٍ سينمائيٍ للرواية و واحداً من أفضل
الإقتباسات السينمائية عموماً ، يتحرك مع ديكنز في الأبعاد الثلاثة (الزمانية و المكانية و النفسية)
لشخصيته الرئيسية ، لا يحاول السير عكس المشترك الذي تولّد في ذهن قارئ العمل
الأدبي ، يدرك خصوبة الخيال الذي سيستقبل العمل المقروء في ذهن كل متلقي فلا
يتحداه ، يمسك بالشيء المشترك فقط ، ينجز بفضل العمل المقدر لمدير التصوير غاي غرين و
مدير الإخراج الفني جون برايان – و كلاهما كرّم بالأوسكار – على جعل الأجواء و
التطورات تبدو مألوفةً للقارئ (و هي ذات الجزئية التي أقدرها أيضاً في فيلم جاك كونواي A
Tale of Two Cities) ، يمكن أن أستثني من ذلك
مشهد المقبرة الإفتتاحي و مشاهد الذروة في قصر هافيشام التي تبدو
قطعةً من فيلم رعبٍ قوطي لأسبابٍ دراميةٍ جلية تخدم قيمة الاقتباس و تتفوق على ورق
الرواية .
يمكنني أن أضيف لمأخذي على الفيلم بخصوص علاقة بيب و جو مأخذاً آخر
يتعلق بالكاستنغ ، جون ميلز الذي من الصعب الإلتفاف على حقيقة أنه كان في
الأربعين و هو يؤدي دور بيب في التاسعة عشرة ، جودة أداءه لا تلغي أن مظهره بحد ذاته يجعل
الشخصية تبدو أكثر نضجاً مما يفترض خصوصاً و أن النضوج بحد ذاته هو ركنٌ أساسيٌ في
رحلتها الموزاييكية ، مشكلةٌ أخرى مع فاليري هوبسن التي يُضرُّ بها أن تلعب الدور ذاته الذي لعبته جيان سيمونز
في النصف الأول من الفيلم ، هوبسن – التي تؤدي دور والدة استيلا كذلك – لا تستطيع
منحنا ذات الأبعاد التي وضعتها سيمونز في شخصية استيلا ، جيان سيمونز اختيار موفقٌ جداً من لين في الدور ، جمالها
و عجرفتها تبقيان معنا تماماً كما بقيت مع بيب و تطغى على صورة استيلا الكبيرة ، نفهم من خلال سيمونز لماذا أحبها بيب و تمسك
بحبها طوال تلك السنوات ، مثل سيمونز يملأ فرانسيس سوليفان دور المحامي جاغرز تماماً ، كتلةٌ من الصرامة و العملية مع ملمح
قلبٍ طيب يخفيه وراء الصورة ، مشهده وهو يحكي لبيب الحقيقة باقٍ معي
على الدوام.
عام 1999 وضع معهد الفيلم
البريطاني BFI هذا الفيلم خامساً ضمن
أعظم الأفلام البريطانية عبر العصور ، ثم في المرتبة الرابعة عشرة في استفتاءه
اللاحق عام 2004 ، البعض يعتبر أن ديفيد لين بعد
نجاح Oliver Twist كان يمكن أن يصبح بالنسبة لتشارلز ديكنز ما كانه لورانس أوليفييه بالنسبة لويليام شكسبير ، لكن
ديفيد لين لم يستمر في ذلك المنحى و فضل البحث عن تحدياتٍ
جديدة تثبت عظمته الإخراجية ، وجدها بعد سنوات في الملاحم السينمائية التي صنعت
عظمة شراكته الطويلة – التي بدأت هنا – مع ممثله الأثير ، السير أليك غينيس
.
0 التعليقات :
إرسال تعليق