كتب : أحمد أبو السعود
التقييم : 5/5
بطولة : نيكول كيدمان ، يوان
مغريغر
إخراج : باز لورمان (2001)
أول ما ستلاحظه و تنجذب إليه عين المُشاهد فى تحفة باز لورمان هذه - سواء أعجبته أم لا - هي الزخم و الإبهار البصري و اللوني الغير معتاد حتى بالنسبة لهذه النوعية من الأفلام ، هذا شيء طبيعي و منطقي فلورمان لا يُخفى تأثره بالسينما الهندية بما تحتويه من استعراضات و ألوان و بهرجة بصرية ، لكن ما الذى جعل من هذا الزخم و الإبهار شيء خالد و عظيم ؟
يبدأ الفيلم بلقطة يغلبها طابع سوداوي لشوارع باريس ، نرى الوجوه
كئيبة لا تنبض بأي حياة ، بعدها بلحظات نعود بفلاش باك إلى نفس الشوارع ثانية و
لكن بطابع مٌبهج و نابض بالحياة هذه المرة ، يختار لورمان لقصة فيلمه
البسيطة الوقت و المكان المناسبين تماماً ، نهاية قرن و بداية قرن جديد ، ثورة
بوهيمية تغزو العالم ، ثورة تقدس و تتنفس شعارات الحرية و الجمال و الحقيقة و الحب
، و لدينا بطل يقرر أن يغادر إلى القرية التي يرى فيها تجسيداً بارزاً لتلك المبادئ
مع العلم أنه لم يخض أي تجارب فى حياته ،
في اللقطتين السابق ذكرهما نرى فيهما نفس الوجوه و الشوارع ، حيلة بصرية
ذكية جداً لتوضيح طابع تلك الفترة الزمنية المميزة ، و تمهيدة قوية للشكل البصري و
المأساوي الذى سينتهى به الفيلم .
نعود للشكل البصرى المُبهر الذى تبناه الفيلم ، الفيلم في النهاية عبارة عن ميلودراما رومانسية بسيطة تنتهي نهاية مأساوية ، يضخ باز لورمان كل الألوان الممكنة على شريط الصورة بالشكل الذى يليق بفيلم ميلودرامي اعتماده في الأساس على تضخيم المشاعر و رسم شخصيات تتعايش في إطار خاص بها ، نلاحظ طبعاً انتشار اللون الأحمر في الفيلم ، من الممكن الإشارة بهذا اللون إلى الكثير من المشاعر المتناقضة من الشهوة إلى الحب إلى المرض إلى الثورة إلى الغضب إلى الغيرة ، على سبيل المثال الفستان الأحمر الذى ارتدته ساتين أول مرة لمقابلة الدوق ، اللون هنا في البداية يُشير إلى الشهوة و الإغراء ، عندما يحدث سوء التفاهم و تنفرد ساتين بكريستيان بدلاً من الدوق لا نراها معه بالفستان في إشارة إلى انتفاء غرضه في البداية ، ثم يتعاظم المشهد - كحال الفيلم بأسره - إلى مقطوعة موسيقية يتغنّى بها كريستيان و هنا يظهر الأحمر ثانية بقوة كإشارة إلى انطلاق شرارة الحب بينهما ، تعود ساتين بعد ذلك إلى ارتداء الفستان ثانية و تقدم مع كريستيان المقطوعة الموسيقية التي تنطلق بها قصة حبهما العظيمة ، الميلودراميات العظيمة تستغل الألوان والإضاءة بطريقة تخدم و تُظهر مشاعر أبطالها البسيطة حتى لو وصل الأمر إلى درجة الإسراف في استخدامهما ، لنا طبعاً في العظيم دوجلاس سيرك المثل الأقوى و الأعظم على ذلك ، البراعة في استخدام الألوان سينمائياً في العموم هي استخدام نفس اللون للتعبير عن مشاعر مختلفة و متناقضة حتى و إن كانت في نفس المشهد بطريقة تصل بالطبع إلى الجمهور و تُحدث لديهم التأثير المطلوب ، تصل درجة البذخ اللوني إلى الذروة في الاستعراض النهائي ، فهو بطبيعة أجواءه الهندية يتم فيه ضخ كل ما هو ممكن من ألوان : أزرق ، أحمر ، أبيض و غيرهم ، بدرجات متباينة و بمزج ينتج عنه أشكال لونية أخرى ، درامياً يحفل هذا الاستعراض بالكثير من التحولات و التصاعدات و لا يمكن بأى حال من الأحوال فصل تتابعات الاستعراض نفسه عن تصاعدات الدراما نفسها وصولاً إلى ذروتها بموت ساتين ، تشابكات الألوان و الإضاءة هنا تصل إلى درجة التعقيد مع الحدة في تحولات المشاعر ، النسق اللوني المُكثّف هنا لم يكتفى فقط بالارتباط بميلودرامية القصة نفسها ، بل كان له تأثيراً قوياً في تحقيق أسلوباً استعراضياً غنائياً انفرد به الفيلم ، فلا يمكن بأي حال من الأحوال فصل ما تراه عيناك عما تسمعه أذناك بطريقة تجعل مخيلتك راضية تماماً عما شاهدته .
يعتمد باز لورمان بصرياً على أسلوب غير معتاد في الأفلام الغنائية ، فإلى جانب تكثيف الألوان و كثرتها ، تأتى التتابعات الاستعراضية و الغنائية هنا بإيقاع لاهث يحبس الأنفاس ، فهو أولاً يقدم تلك المقاطع في هيئة لقطات كثيرة و قصيرة زمنياً و بزوايا تصوير مختلفة ، ثانياً يضخ فى تلك اللقطات أطنان من التفاصيل اللونية و الحركية تجعل معها المتابعة شيئاً ممتعاً و مثيراً و به كمية من الأدرينالين لا بأس بها ، ثالثاً يجعل محاولة تفكيك تلك التفاصيل عبارة عن إعادة مشاهدة تمتص من المُشاهد نفس المجهود الممتع الذى تابع به المُشاهدة الأولى ، رابعاً جميع استعراضات الفيلم و أغانيه بها قدر عالي من التعقيد على مستوى التخيل و التنفيذ فمساحات الأماكن محدودة و التفاصيل كثيرة ، هذا كان واضحاً بشدة منذ بداية الفيلم ، و مع أول دخول لنا في المولان روج ، حيث يستعرض زيدلر و فتياته كل ما يمكن أن يحدث داخل ذلك الملهى ، ذلك التتابع مرهق فعلاً ؛ مرهق في تخيله و في تنفيذه و فى الاستمتاع به ، كأنك محبوس داخل مصعد صغير مع فرقة سيرك كاملة كما قال روجر إيبرت فى مقاله عن الفيلم .
على شريط الصوت هناك نغمات موسيقية متواصلة لا تنقطع سواء كانت تلك استعراضات و أغاني أو كانت فواصل موسيقية بين المشاهد ، لا يلتزم لورمان إطلاقاً هنا بطبيعة الحالة الموسيقية في تلك الفترة و لا حتى يُقدم أغاني مكتوبة خصيصاً للفيلم ، هو يلتزم فى النهاية بمبادئ الثورة البوهيمية حيث التحرر من كل ثابت ، فلا غرابة إذاً أن يستعين بأغاني بوب مثلاً من الثمانينات و يقدمها بأصوات ممثليه بل و يتحكم في إيقاع و حالة تلك الأغاني بطريقة تخدم فيلمه و أسلوبه ، بل و يستعين بمغنية مثل كيلي مينوج لتقديم فاصل غنائي قصير عن شعارات الثورة البوهيمية ، كل ذلك أضاف في النهاية على شريط الصوت سحراً فريداً يمتلئ بالتفاصيل الموسيقية و الغنائية .
حالة التحرر تلك من السهل ملاحظتها أيضاً فى السيناريو ، السيناريو مُعتمد بالكامل على الارتجال و الصدف كطريقة لتفاعل الشخصيات مع بعضها و كطريقة لتطور الأحداث بعد ذلك ، حتى استعراضات و أغاني الفيلم بأكملها تقريباً مُرتجلة ، كالاستعراض الذى خدعوا به الدوق كي يُقنعوه بتمويل مسرحيتهم ، و استعراض "مثل العذراء" و الذى يوضح تماماً طبيعة الارتجال كطريقة تُستخدم لتحقيق شكلاً فنياً مميزاً لا ينفصل عن تطور الشخصيات و تصاعد الأحداث ، أو استعراض روكسان الذى يلخص بالكامل فلسفة الحب و الجسد التي يقدمها الفيلم ، و حتى الاستعراض الهندي الأخير آلت به الأمور في النهاية إلى الارتجال بعدما جدّ فى الأمور جديد ، حالة الارتجال تلك كما منحت الفيلم تحرراً مقصوداً مناسباً تماماً لطبيعة الفترة و طبيعة الشخصيات التي تعيش بأكملها فى نظام عشوائي فوضوي ، فهي أضفت عليه أيضاً تدفقاً حميمياً و جميلاً للمشاعر و لقصة الحب التي ستنتهى نهاية تراجيدية حزينة كما يُخبرنا الفيلم في بدايته .
مثل تلك الأفلام تمنح ممثليها فرصة جميلة و قوية للتألق ، نيكول كيدمان هنا - كما يقولون عن شخصيتها داخل أحداث الفيلم - الماسة المتألقة - كانت بالفعل ماسة متألقة ؛ ترقص و تغنى و تمثل ، تنتقل برشاقة غير معهودة بين تقلبات الشخصية من غانية تبيع جسدها لمن يملك مالاً أكبر لامرأةٍ تكتشف أن بإمكانها أن تصبح بطلة في قصة حب عظيمة لراقصة كانكان تحاول أن توازن بكل ما تملكه من حيل بين طموحها كممثلة و بين التنازلات التي عليها أن تقدم و بين قصة الحب التي لا تملك إلا الاستسلام لها طواعية ، أداء عظيم و نادر يليق بممثلة من الطراز الرفيع ، و من الظلم بالطبع عدم الإشارة إلى تميز باقي الممثلين و الكيميا و التناغم المذهل بين الطاقم بأكمله بما فيهم الراقصين و الكومبارس .
بالنسبة لشخص يعشق الأفلام الغنائية ، يُمثل هذا الفيلم بالنسبة لي قطعة فنية غنائية تُضاف بكل ثقة إلى كلاسيكيات الغنائيات العظيمة ، و كما قال روبرت وايز صاحب West Side Story - أحد أعظم أفلام الصنف - أن مولان روج أعاد اختراع الأفلام الموسيقية .
0 التعليقات :
إرسال تعليق