كتب : عماد العذري
التقييم : 4.5/5
بطولة : مايا ديرن ، أليكساندر
هاميد
إخراج : مايا ديرن ، أليكساندر
هاميد (1943)
هذه النوعية من الأعمال الطليعية و التجريبية إما أن تجد لها متسعاً
في وعي المشاهد و بالتالي تنال قبوله ، أو لا تجد ، لا علاقة لذلك بالثقافة
السينمائية أو الإدراك الفني ، هدفها دائماً كسر السائد على صعيد السرد أو الحكاية
أو التكنيك الإخراجي ، إما أن تتقبل ذلك الكسر أو لا تتقبله ، هكذا بكل بساطة .
مرت السينما الطليعية بمرحلتين رئيسيتين ، الأولى جاءت مع بواكير
السينما الأولى كرد فعلٍ طبيعيٍ على هذا الإختراع الوليد ، فكرة السينما بحد ذاتها
كانت تقتضي ظهور عددٍ هائلٍ من الأفلام الطليعية ، أتاح الإختراع الوليد لعددٍ
كبيرٍ من المخرجين و الفنانين – فقط بوجود كاميرا تصويرٍ سينمائي - تجريب ما
يشاؤون في مرحلةٍ كان الوسيط الفني الجديد ما يزال بكراً ، و مع ظهور الحكايات و
السوق و النجوم بدأت سينما التجريب تضمحل تدريجياً بين الحربين العالميتين ،
المرحلة الثانية كانت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية و تحديداً بفضل مجموعة
مشاريعٍ سينمائية تصدرها هذا الفيلم ذي الأربع عشرة دقيقة و الذي لطالما نسب الى مايا ديرن
وحدها ، الأمر الذي قيل بأنه كان سبب انفصالها عن زوجها و شريكها اليكساندر هاميد
لاحقاً .
الحكاية – إن صح تسميتها كذلك – عن امرأةٍ نراها تعود إلى منزلها
بزهرةٍ وجدتها في طريق عودتها ، تنام على كرسي و تستغرق في نومها فترى حلماً
متكرراً لها ، تطارد فيه كياناً غريباً لجسدٍ بوجه مرآة ، يعاد الحلم مع صورةٍ
إضافيةٍ لها و تجربةٍ جديدةٍ في تأمل ما يجري .
في هذا العمل تلقي مايا ديرن رفقة زوجها و شريكها في الإنتاج و التمثيل أليكساندر هاميد
نظرةً في العمق على امرأةٍ تستلهم تطلعاتها اليومية و الضغوطات و العقبات التي
تواجهها من خلال الغوص في اللاوعي عبر تجربة الحلم هذه كإنعكاسٍ لحالة المزاج
اليومية التي تعيشها مؤخراً ، تستخدم ديرن السينما كوسيطٍ لتجسيد هذه الحالة في بنية غير قصصية
تستمد قوتها من أمرين : الأول هو عملية السرد ذاتها و فكرة توظيف الأحلام المتكررة ،
حلمٌ داخل حلم داخل حلم ، من أجل التعبير عن حالة البطلة التي تكسر حاجزاً اضافياً
مع الذات كلما غاصت أكثر في لا وعيها مع كل حلمٍ جديد ، تمسك بتلابيب ضعفها و تعثر
على مفاتيح خلاصها كلما تخلصت من خوفها القادم من الوعي ، و الثاني من
القيمة التي تقدمها الحالة التي تسرد علينا عن حقوق المرأة و التيارات النسوية
التي لطالما ارتبط اسم مايا ديرن بها .
ديرن تأخذ هنا الميلودراما كصنفٍ سينمائي و تعمل على تحويله الى شيءٍ آخر
مستلهمةً الأعمال الطليعية الأولى و خصوصاً عملي بونويل و دالي الشهيرين
، تأخذ مادة الميلودراما المفضلة حيث الأنثى المنسحقة تحت وطأة المخاوف التي خلقها
المجتمع فيها جراء الحكم الذكوري له ، لكنها تكسر قالب الميلودراما – الرائج جداً
حينها – لتقدم شيئاً مختلفاً على صعيد الشكل على الأقل .
في العمق لا يقدم العمل تجربةً للمشاهدة ، هو يقدم حالةً يمكن الحديث
عنها في سطرين ، لكنه يترك للمشاهد ترجمتها ، يكمن اختلافه – و ربما مكمن قوته لدى
البعض ، ضعفه لدى البعض الآخر – في المساحة التي يوفرها لـ (الرمزية) ضمن
عملٍ سريالي الطابع ، الرمزية هنا جزءٌ من البنية غير القصصية التي تقدم لنا ،
وجودها هو ما يمنع هذه البنية من التحول لمجرد خربشاتٍ مجنونة ، لكن هذه المساحة في
الوقت ذاته قد تكون ربما عقبةً في استفزاز ذهن المشاهد و الذهاب بعيداً في مخاطبة
لا وعيه كما يجري في الأفلام الطليعية و بالتالي قد يجعله ذلك التبسيط الرمزي عملاً
للمشاهدة الواحدة فقط ، و مع ذلك من الصعب انكار أن هذه التجربة ذات الـ 14 دقيقة هي من فتحت الباب الحقيقي لسينما ديفيد لينش – مثلاً -
التي مزجت السريالية بالرمزية لكن مع عملٍ أكبر على البنية القصصية .
في التسلسل السردي تترك لنا ديرن مساحةً لتفسير ما يجري بناءً على تلك الرمزية و لذلك
تتعدد القراءات للبنية السردية ذاتها و ان كنت أميل لاعتبار الفيلم بدقائقه كلها
مجرد حلمٍ متعدد المستويات بالرغم من أن قراءاتٍ أخرى ترى في لوحتيه الأولى و
الأخيرة أحداثاً حقيقية ، في المستوى الأول ، البسيط و القريب من لحظة اليقظة ، تقدم لنا ديرن إمرأةً
تعاني من عذابات / صراعات / تناقضات ، منها ما تعرفه و منها ما تشعر
بتأثيره عليها ، الوحدة ، و الإحباط ، و ربما هاجس الإنتحار ، (الوردة) التي
تلتقطها مطلع الفيلم هي (الشيء الجميل في حياتها) ، ربما الحب أو العاطفة أو رغبة
الحياة ، في الواقع هذا ما تبدو عليه للآخرين ، تتجنب الكاميرا في هذا المستوى التعامل
مع وجه البطلة ، تلتقط يديها ، مشيتها ، ظلها على الحائط ، هذه الضبابية هي الصورة
التي تبدو عليها البطلة ، ينزلق المفتاح عبر الدرج فتحاول اللحاق به و التقاطه ، في المنزل تجد
سكيناً في قطعة خبز و هاتفاً رفعت سماعته و نافذة مفتوحة و فونوغرافاً يعمل ، يتضح
لنا هنا أنها لا تعيش وحدها ، تذهب في النوم ، لترى في حلمها – او المستوى الثاني
من الحلم - انها تطارد شخصاً بوجه مرآة يحمل وردتها ، الشيء الجميل في حياتها ، الكاميرا
في هذا المستوى تلتقط وجه البطلة ، هي هنا نظرة البطلة لذاتها ، تعجز عن اللحاق
بذلك الكائن الغريب ، و في منظور المستوى الثاني من الحلم يبدو هذا تعبيراً عن عجزها الحقيقي عن
ادراك مكمن (مخاوفها) التي تسرق (الشيء الجميل في حياتها) ، تنصرف الى منزلها ،
تعثر على السكين و على سماعة الهاتف مجدداً ، (سماعة الهاتف) تبدو
رمزاً للهاجس الذي يناديها و لا تأبه له فتغلقه كل مرة ، و (السكين) هنا هي
كنايةٌ عن (النهاية) ، في هذا المستوى لا تدرك البطلة ذلك (الهاجس) و لا
تدرك كيفية (النهاية) ، نرى – من خلال كاميرا هاميد و أداء ديرن - كياناً
ثقيلاً يمنعها عن البقاء في غرفتها ، بطلة ديرن هنا تعاني العجز و الخوف من شيءٍ في ذاتها يمنعها عن اتخاذ قرارٍ تجاه من يسلبها
الشيء الجميل في حياتها ، ترى نفسها نائمةً في الغرفة ، تطل من الشباك على المستوى الثالث
من الحلم ، ترى نفسها مجدداً تطارد الكيان الغريب ذو وجه المرآة ، تنصرف الى
منزلها و تخرج المفتاح من فمها ، (المفتاح) هنا هو كنايةٌ عن (الحل) ، و وجوده يخرج
من فمها دليلٌ على أنها تملكه دون أن تدركه ، في المنزل ترى الكيان الغريب يصعد إلى
غرفتها حاملاً الوردة ، تجرؤ في هذا المستوى على ادراك أن هذا الكيان الغريب هو
جزءٌ من منزلها ، لكنها تصعد بصعوبةٍ وراءه من أجل اللحاق به ، لا تدركه لكنها
تراه هناك يضع الوردة في سريرها ، ترى الوردة سكيناً ، بطلة ديرن اقتربت
اكثر من ملامسة مخاوفها ، امتلكت الحل دون أن تدرك كينونته بعد ، ترى نفسها نائمةً تحلم
ثم تنظر من النافذة على مستوى رابعٍ للحلم ، نسخةٌ رابعة منها تطارد الكيان الغريب ثم
تنصرف الى منزلها ، المفتاح مجدداً موجودٌ في فمها ، لكنه يستحيل سكيناً هذه المرة
، العمق الرابع للحلم يقدم حلاً ، نهايةً لكل شيء ، تعرضه على نسختيها الأخريين كـ(مفتاح / حَل)
، لا يكون سوى مجرد مفتاحٍ بالنسبة لهن ، لكنه يستحيل سكيناً في يد النسخة الثالثة
، في أعمق أعماق الحلم ، حيث المستوى الرابع ، تكسر الشخصية قيودها و تعثر
على الحل الذي يحررها و هو حل ترفضه نسخ المستويين الثاني و الثالث كنايةً
عن ضعف و هشاشة البطلة و عدم قدرتها على اتخاذ قرارٍ كهذا ، هي تعرف الآن (كيف
ستتصرف) ، لكنها لا تعرف (تجاه من ستتصرف) ، تتوجه النسخة الرابعة نحو النسخة
الأولى النائمة لإنهاء كل شيء ، تسير على الرمل و العشب و الأسفلت و السجاد كنايةً
عن طول المسافة التي استغرقها فعلٌ كهذا ، عند لحظة الفعل تستيقظ النسخة الأولى
هلعة على وجه حبيبها ، استيقاظها هنا رمزيٌ بحد ذاته ، هي تذهب في مستوى أعمق
للحلم حيث تتحرر من وعيها و تدرك في لحظة (الإستيقاظ) هذه (تجاه من ستتصرف) ، تصعد وراء حبيبها الذي يحمل (الوردة / الشيء الذي
تحب) ، نراه يغلق (الهاتف / الهاجس) ، تراه على نفس هيئة الكيان الغامض يضع
الوردة في سريرها و ترى وجهه في المرآة ، تستلقي الى جوار وردتها التي تستحيل (سكيناً / نهايةً)
لكل ما يجري ، توجه السكين باتجاه رجلها فتتحطم مرآته و يلتهمها البحر ، في المستوى الأخير
من الحلم نرى من شباك النافذة رجلها هذه المرة – و ليس بهيئة الكائن الغريب – يعود
إلى المنزل ليرى الوردة مرميةً في الخارج ، و يراها هناك ، تجلس على كرسيها و قد
أنهت كل شيء ، مخاوفها ، تطلعاتها المكتومة ، ذكوريته ، تحررت و انعتقت من هواجسها
التي لا تهدأ .
هذا الإعتماد الواضح على الرمزية في التعامل مع سريالية الحلم قد يصنع
مشكلة تقبلٍ لدى البعض و مشكلة ديمومةٍ لدى بعضٍ آخر ، مع ذلك فالسرد المقدم
مفتوحٌ على قراءاتٍ متعددة قائمة على طرق التوظيف المختلفة للرمز في السينما ، ما
يهم هنا أن ديرن تحقق مبتغاها ، تتناول مخاوف بطلتها و التي هي مخاوف
المرأة من الرجل عموماً ، مخاوفها الموجودة في عقلها الباطن و التي هي بحاجةٍ
لتحريرها أولاً كي تتحرر ، تنجز ديرن تلك الصورة بأقل التكاليف الممكنة ، كتبت فقط خطوطاً
عريضةً للحكاية ، قامت بالبطولة مع زوجها و هو ذاته الذي نفذ التصوير السينمائي
بكاميرا 16 ملم متواضعة ، حتى أن
ديرن أضافت الموسيقى التصويرية بعد 13عاماً بفضل تعاونها مع
زوجها الثالث الموسيقار الياباني تيجي آيتو ، بهذه الأدوات فقط عاش هذا الفيلم ، و بهذه الأدوات وضعت ديرن لإسمها مكاناً في تاريخ السينما .
0 التعليقات :
إرسال تعليق