كتب : عماد العذري
التقييم : 5/5
بطولة : إيتيان بيكير ، جان نيغروني
إخراج : كريس ماركر (1962)
بعد بضعة أعمالٍ وثائقية و عملٍ رسوميٍ قصير قرر كريس ماركر
تقديم عمله الروائي الأول و الذي أصبح مفخرته السينمائية لاحقاً ، و بالرغم من أنه
كان مشروع فيلمٍ قصير إلا أن ذلك لم يتح له مع ذلك الحصول على الميزانية الكافية
لإنتاجه ، كل ما حصل عليه كان كافياً لإستئجار كاميرا تصويرٍ سينمائيٍ لبضع ساعاتٍ
فقط ، التقط صورةً متحركةً واحدة و قام بإنشاء بقية فيلمه بصورٍ التقطها بكاميرا
فوتوغرافية ، لكنه منح السينما - بالرغم من ذلك - كلاسيكيةً تستحقها.
جاء الفيلم في ذروة الحرب الباردة و في فترةٍ كانت فيها الموجة الفرنسية الجديدة
حديث السينما في فرنسا ، كان كريس ماركر يغرد بمفرده بالرغم من علاقته الجيدة بمخرجي الموجة
و اعتباره جزءاً مما عرف بـ (الضفة اليسرى) رفقة آلن رينييه و آنييس فاردا و آخرين ، مارس التجريب كثيراً و أطفأ ولعه
السينمائي – الذي جاء في الأساس من حسه الصحفي – من خلال وثائقياته الكثر التي
جعلته ربما أبرز مخرجي ما يعرف بـ (المقالة السينمائية) و التي تمزج التوثيق بالرؤية الشخصية
مستثمرةً التجريب السينمائي و الحيل المونتاجية .
في الفيلم يتتبع ماركر رجلاً مجهول الإسم يتحول إلى فأر تجارب في المستقبل
القريب بعد حربٍ عالميةٍ ثالثة ، يخضع لعملياتٍ متكررةٍ في السفر عبر الزمن نحو
الماضي و المستقبل من أجل انقاذ الجنس البشري في الحاضر المظلم الذي يعيشه ، لكن
وقوعه في حب امرأةٍ غريبةٍ شاهدها في ماضيه يجعل من التجربة شيئاً مختلفاً .
نص الفيلم فيه شيءٌ من روح كافكا ، التشاؤم و العبث و بعض العدمية ، غير مهتمٍ في عمقه
ببعد الخيال العلمي و ان انتمى اليه تصنيفياً ، لا يحاول تقديمه علمياً أو جعله
منطقياً ، نحن حتى لا نستوعب تماماً آلية السفر عبر الزمن التي يقدمها و التي تبدو
ذهنيةً أكثر من كونها جسدية كما هي عادة التعامل مع الفكرة ، يقول شيئاً مهماً عن
الذاكرة و قيمتها في تكوين الإنسان ذاته ، الذاكرة هنا هي خلاص بطلنا و موته في آن
، هي ما يعيش بعد كل شيء ، هي الشيء الحقيقي الذي يبقى ، غرفة نوم حقيقية ، أطفالٌ
حقيقيون ، طيورٌ حقيقيةٌ ، قطط حقيقيةٌ ، مقابر حقيقية ، الذكرى هنا هي صورةٌ
حقيقيةٌ لشيءٍ حقيقيٍ يبقى معنا و يشغل جزءاً من كياننا القائم على تسلسلٍ لا
ينتهي من الذكرى ، الذاكرة هي كل شيء ، مثل متحف الحيوانات القديمة الذي زاره مع
امرأته ، كل شيءٍ شاهده هناك كان حقيقياً ذات يوم ، تماماً مثل تلك الصورة التي
احتلت ذاكرته منذ طفولته و التي يبعثها من رمادها في ختام الفيلم ، هذه الحكاية
بحد ذاتها تستطيع أن تفسر لنا مقدار التأثير الذي يمتلكه الفيلم على عددٍ كبيرٍ من
أفلام الخيال العلمي و على جميع الأفلام التي استلهمت فكرة السفر عبر الزمن التي جاءت بعده ، (الصورة / الذكرى) تكون
على رصيف مطار أورلي في باريس قبل سنواتٍ من اندلاع الحرب ، صورةٌ من الطفولة لإمرأةٍ
شاهدها بطلنا هناك ، صورةٌ رفضت مغادرة ذاكرته بعد كل تلك السنوات السوداء ، لم
يعد يعلم على وجه الدقة هل كانت صورةً حقيقيةً أم شيئاً ابتدعه عقله رداً على كل
ما شاهده ، كل ما يتذكره هو وجهها و صراخ الناس على رصيف المطار عندما شاهدوا
أمامهم رجلاً مقتولاً ، بطلنا يدرك في ختام الفيلم عندما يقرر الإنتقال إلى الماضي
– للبقاء بجوار المرأة التي أحب و التي لم تفارق صورتها ذاكرته لسنوات – أن ذلك
الرجل المقتول على الرصيف كان هو ، قتل من قبل رجال الحاضر الذين جندوه لمهمتهم
العلمية ، قتل في ذات اللحظة التي لم تفارق ذاكرته : وجه امرأة و هدير طائرات و
صراخ جموع و رجلٌ يهوي على الأرض ، الحكاية متاهةٌ تأثرت بها معظم الأفلام التي
تناولت السفر عبر الزمن بعده ، السفر الجسدي فيها يمنحها تعقيد حكاية The Terminator و Looper حيث يموت البطل في زمنٍ يسبق الزمن الذي وصل إليه فعلاً ، و السفر
الذهني فيها – و هي صورةٌ واردةٌ مع عدم وجود دليلٍ ملموس على انتقالٍ جسدي - يجعله
و كأنما يموت في ذاكرته ، قتلٌ لـ (الذكرى / الكينونة) كمدخلٍ لقتل الجسد ، قتلٌ للصورة الوحيدة
التي بقيت له ، و التي هي في الوقت ذاته صورة القتل ذاته !
و بالرغم من الاثر البالغ الذي خلفته الحكاية ورائها على صنف الخيال
العلمي كله ، إلا أن العمل قائمٌ على اخراج كريس ماركر بطريقةٍ
تفوق المتوقع ، النص لا يكاد يكون شيئاً ذا قيمةٍ على الورق ، ماركر يخرج
منه أعظم ما فيه ، يجرب ، لكنه ينتج عملاً من أسرع الأعمال التجريبية ردماً للهوة
بينه و الجمهور ، يغمرك بالحكاية و الجو و النبرة لدرجةٍ تنسيك في الواقع أنك
تشاهد – على مدار 28 دقيقة كاملة – ألبوم صور
! ، لقطةٌ متحركةٌ واحدة لإمرأةٍ تستيقظ من النوم ، لا حوار حقيقي ، همساتٌ
متناثرة بالألمانية و الفرنسية ، و صوت راوي ، هذا كل ما احتاجه كريس ماركر
ليصنع كلاسيكية ، إحساسنا بالمراحل الزمنية الثلاث عظيم و يفوق ما يمكن الحصول
عليه بأدواتٍ كهذه ، الحاضر مؤلم ، كابوسي ، مخنوق ، شيءٌ قادمٌ من حقبة المقاومة
ابان حكومة فيشي ، و المستقبل يبدو قادماً من فانتازيات ما وراء المجرة ،
و الماضي حالمٌ ، منسل ، فيه كل ما نحب ، احساس اليوم الأخير فيه حقيقيٌ جداً و
يصل كما يراد له ، الصورة التي يقدمها لنا ماركر تحكم احساسنا بذاكرة البطل ذاتها و رحلتها الإدراكية ،
سوداوية الحاضر و جمود المستقبل يدفعانه – بصرياً – لإدراك قيمة الماضي الذي جذبه
من خلال صورةٍ حفرها في ذاكرته ، مسألة الصور هنا و بالرغم من أنها حُكمت بالظروف
الإنتاجية إلا أن ماركر جعلها تضرب في صميم عمق الحكاية عن الذاكرة التي تقوم
على (صور) ، التعبير هنا عن المعنى من خلال صورٍ غير متصلةٍ بصرياً
يجعله يستفز عقل المشاهد لملء فراغات الإتساق البصري بين صورةٍ و أخرى لتشكيل
المعنى المطلوب ، شيءٌ مشابهٌ لتجربة بطله ذاتها حيث استفزاز العقل و الذاكرة لجعل
(مجموعةٍ من الصور) (تجربةً حقيقية ذات معنى) ، كان سيرجي إيزنشتين ليكون سعيداً جداً لو امتد به العمر ليشاهده .
0 التعليقات :
إرسال تعليق