كتب : أحمد أبو السعود
التقييم : 4.5/5
بطولة : ميتشينوري فوكاو ، مامورو ساساكي
إخراج : ناغيسا أوشيما (1968)
يبدأ الفيلم بطرح
سؤال فلسفي مباشر عن موقفك أنت - كمُشاهد - من الإعدام كعقوبة جنائية ، ثم يعرض
بعض الإحصائيات و بعض الأفكار المتعلقة بالسؤال الرئيسي ، ينتقل الفيلم بعدها
مباشرة لمونولوج طويل عن غرف الإعدام و وصفها و كيف أنها من الخارج و الداخل تشبه
إلى حد كبير المنازل التقليدية ، ثم ينتقل - كل ذلك في شكل وثائقي مباشر - إلى وصف
تفصيلي لعملية إعدام على وشك الحدوث و بالفعل تحدث العملية ، كل الأمور تسير هنا
على نحو واضح و مباشر تجاه طرح فكري معين متخذة شكل سينمائي لا يعطى للمُشاهد أي مساحة
للتأمل أو التفكير حتى في مضمون السؤال المطروح في بداية الفيلم ، لكن ماذا يحدث
عندما لا يتوقف قلب المُتهم عن النبض بعد إعدامه ؟ كيف ستسير الأمور فكرياً و
سينمائياً بعد ذلك التحول ؟
الإجابة على ذلك السؤال تدفعني دفعاً إلى إعادة النظر في مفهوم "الحبكة" كأرضية
للسرد السينمائي للأحداث و الشخصيات ، حبكة الفيلم هنا تنطلق بعد فشل عملية
الإعدام إلى أفاق أكثر تجريداً و عبثية دون الانفصال بشكل مذهل عن طبيعة الجدل
الفكري الذى حمله السؤال إياه و دون الانفصال أيضاً عن خلفيات تاريخية و ثقافية
تبدو في المُجمل أنها تعطى الفيلم أفكار الفيلم طبيعة أكثر خصوصية و أكثر محدودية
، كل ذلك بدون إثارة الطرح نفسه أو بمعنى أدق إثارة الحبكة نفسها التي تُشكل هنا
طبيعة الشكل الذى اتخذه السرد حيث المزج بين الواقع و الحلم ، المزج بين العبث و
الجد ، إذن لا يمكن هنا بأي حال من الأحوال فصل "الحبكة" عن
"السرد" و بالتالي عن أفكار الفيلم و شخصياته .
العبثية الساخرة التي يمتلأ بها الفيلم تثبت و تؤكد أن الأفكار الفلسفية الجادة التي تحتاج إلى مجلدات لمناقشتها ليس لها إلا العبثية سبيلاً لتحويلها إلى مادة جذابة و مثيرة للذهن ، طبيعة الإنسان حتى تعكس بشكل قوى تلك المفارقة ، بعد استيقاظ المتهم من عملية الإعدام الفاشلة تختفى ذاكرته تقريباً فهل يكرروا المحاولة ثانية ؟ ، أم عليهم أولاً أن يُذكروه بجرائمه و يشعر بالذنب فيتم إعدامه ثانية ؟ ، فلنلق نظرة على الموجودين في غرفة الإعدام : رجل دين يرى فيما حدث أن روح الرجل قد رحلت و بقى جسده فقط فلا يجوز إعدامه ثانية ، طبيب يحاول تفسير ما حدث على استحياء دون امتلاك جواباً شافياً ، رجال قانون يظلوا يتساءلون عن موقف القانون مما حدث و هل يُعيدوا المحاولة بعد أن يستعيد وعيه أم قبل أن يستعيده ، و مُدعي عام يظل صامتاً مُدعياً أنه هنا ليشاهد فقط ، يستيقظ المتهم ناسياً كل شيء و كأنه وُلد من جديد ، يتفق الجميع على أنه يجب أن يتذكر جرائمه ليتم إعدامه ثانية و من هنا يبدأ العبث ، يحاولون إعادة تمثيل جريمتيه أمامه فيتخذ الحوار طبيعة ساخرة مثيرة و تتماهى الشخصيات مع تلك السخرية كأنها رد فعل جاد و طبيعي للمفاجأة التي حدثت ، هنا تنسج "الحبكة" شكلاً سردياً ينتقل بين الحلم و الواقع ، ففجأة ننتقل إلى منزل المتهم لإعادة تمثيل حياته الأسرية علّه يتذكر ماضيه ، و تارة أخرى ننتقل إلى مسرح الجريمة نفسه لإعادة تمثيل الجريمة ، ثم ننتقل إلى غرفة الإعدام مرة أخرى و معهم الضحية التي قتلها المتهم و التي تستيقظ هي الأخرى ، لا تستطيع أنت كمتفرج أن تحدد بالضبط متى بدأ الحلم و متى بدأ التخيل و بالتالي لن تستطيع أيضاً تحديد متى انتهى ، السيناريو كان ذكياً جداً في هذه النقطة ، حيث توازن مذهل بين قوة الحبكة و طبيعة ما تفرضه من أفكار و شخصيات و ردود أفعال و بين تفرد السرد و انتقاله الرشيق و المثير للذهن بين ماضي الشخصيات و حاضرها ، بين ما بداخلها و ما يدور حولها من ظروف ، بين قانونية الاعتراف بالذنب و إنسانية الإحساس بقسوته و التّطهر منه ، كل تلك الانتقالات تحدث في هامش تجريدي بين الحلم و الواقع مدعومة بتشكيلات بصرية في منتهى البراعة ، الصورة هنا تستسلم للأسلوب و ليس للأفكار ، تخدم الأسلوب فتعطى للأفكار بُعداً بصرياً يثير التأمل ، الكلام عن جماليات التشكيلات البصرية في الفيلم من الممكن اختزاله في كم الكادرات التي من الممكن تأويلها فكرياً بسهولة ، تأويل لا ينفصل في النهاية عن قوة الحبكة و تفرد السرد .
سُئل سكورسيزي مؤخراً من قبل مخرج مبتدئ عن الأفلام التي عليه أن يشاهدها كمخرج في بداية مشواره فأعطاه قائمة بـ39 فيلماً غير ناطق بالانجليزية ، 39 فيلماً اعتبرهم سكورسيزي منهاجاً و مرجعاً مهماً و شاملاً لأى صانع سينما مبتدئ ، كان من ضمن الـ39 فيلماً هذا الفيلم المجهول ، الاختيار كان غريباً و غير مألوف ، بعد المشاهدة استوعبت بالطبع لماذا اختار هذا الفيلم ضمن تلك القائمة المميزة ، الفيلم بالتأكيد يقدم شكلاً سينمائياً متفرداً ، متفرداً في استغلاله الغير مسبوق لمفهوم الحبكة و علاقتها شكلاً و مضموناً بالسرد السينمائي و كيفية استغلال أفكار فلسفية من نوعية الذنب و الوعي و العدالة و أخلاقية عقوبة الإعدام في شكل عبثي ساخر سيريالي في منتهى الجمال .
0 التعليقات :
إرسال تعليق