كتب : مصطفى فلاح
التقييم : 5/5
بطولة : إيلار كولترين ، باتريشا
أركت ، إيثان هوك
إخراج : ريتشارد لينكليتر (2014)
جلست عدة أيام و أنا أطالع تلك الصفحة البيضاء التي تنتظر جفاف حبرها ؛
الثكل الذي يضعه هذا العمل على عاتق من يُريد الكتابة عنه يبدو أكبر من طاقتي على
الإحاطة بجميع ما تكتنفه هذه التجربة السينمائية التي نالت شهرتها , رغم التكتم
الشديد للعاملين فيها , منذ اللحظة التي حاز فيها ريشارد لانكليتر ,
مُخرج العمل و كاتب نصه , على جائزة الأفضل في برلين مطلع العام
الحالي ، السبب لذلك بسيط , كونه ليس من الأعمال التي تشاهدها ثم تصمت كما أن
الكتابة عنه تبدو ضرباً من مُستحيل ! ، عمل نادر , مُتفرد , عظيم ؛ فرع من (شجرة الحياة)
تركه (لنكلايتر) لينمو يوماً بعد يوم و يحصد تأثيره الذي لا أتوقع له
اندثاراً قريباً .. أبداً !
خلال مشاهدتي , تساءلت أولاً , لماذا أجزم تاركوفسكي و هو يخط
أطروحته اللازمنية (النحت في الزمن) : "السينما هي دائماً واقع
مُسجل , و لذلك فأني أشعر بحيرة الحديث عنها !" , ثم تساءلت مرة أخرى
عن ماهية السلسلة التوثيقية قليلة الشهرة Up التي جعلها مايكل آبتد ,
المخرج الأنكليزي , مصدر هوس دراسة أفقية لعدة أفراد كل سبعة سنين على مدى نصف
القرن الماضي تقريباً ؟ ، و ثالثة عن أصرار الراحل روجر إيبرت في ضمها
الى قائمة مشاهداته العظيمة ؟! ، قبل أن يكشف لنكليتر , بعد وقت
قصير فقط من استرساله , عن وجهيّ العملة الواحدة ، شاشة السينما و عدسة الواقع !
من الجميل أن نعايش الفترة التي رافقت أطلاق عمل مشابه , فقط لتقدير
حجم الدهشة التي عاشها متلقوه حينها , و لنكون (بعد أكثر من قرن و عقدين على ولادة
الشاشة الكبيرة) في صف الناطقين بالحكم : هذا ليس كأي شيء شاهدناه من قبل ! ، و لنكلايتر
يُدرك حجم الجوهرة التي بين يديه , يصقلها بإخراج أبداعي ثابت المستوى على مدى عقد
من الزمن , و يضعها بشكل آمن على رف كتاباته السينمائية المُفضلة ، و هو أفضل من
يكتب بين مُعاصريه!
القصة , كما أصبحت يُدركها الكثير , ليست فقط عن سنوات في عمر (مايسون) وحده ,
رغم كونه محورها و مركز ثقلها الرئيسي , إنها بالقدر نفسه عن مُحيطه الأسري
(والدته و شقيقته) , عن مُحيطه المجتمعي (مدرسته و عمله) , و عن ذاته ، لا ينأى
الكاتب خلالها عن اختلاس لحظات زرع العقبات في حياتهم جميعاً و توجيه الضربات له
بنفس الثقل الدرامي التي حولّ فيها فرانسوا تروفو عمله الأشهر The 400 Blows الى رائعة الموجة الأكثر تأثيراً و بطله الصغير أنتوان دوينل
الى شخص الموجة الأكثر شهرة ، فضلاً عن تفرغ المُخرج الكلي لاستدراك ردود الفعل
التي لن تبدو غريبة على عدد كبير من المشاهدين أذا ما حلوا محلّهم!
في هذا الفلم لم يحاول لنكلايتر , كعادته , أن يقوم بدور الواعظ الأخلاقي أو المُحلل
النفسي لشخصياته بل يكتشف معنا صيغاً جديدة للحياة , و بدائلاً ربما تكون او لا
تكون ملائمة لنا نحن , و لكنها جديرة بالمحاولة و البحث مع كل طارئ ؛ أستطاع فيه
أن يُعطي للكاميرا كل روحه و هو يلتقط نهج حياة النضوج بأدق تفاصيلها , صدقه و هو
يرصد حياة مايسون بحلوها و مُرها , و أخيراً خبرته في لملمة ألبوم الصور
و جعله مُقارباً للواقع الذي ألتزم تأمله أسبوعياً على مدى أثنا عشر عاماً سابقة ؛
سمات مُخرج شغوف بمهنته و بالغ التمكن منها , و هنا لنكلايتر يحلُ في
طليعة الصفوة , لا محالة .
لعبت عدسة لي دانيالز , مُدير تصوير لنكلايتر الأثير ,
دوراً لا يُمكن أغفال براعته في هدم الحاجز بين المُشاهد و ما يُشاهده و في منح
الفلم تراصفاً موزوناً و فهماً ودياً على مستوى أدراك اللحظة , و هي كثيرة ؛ لحظات
السمو و الإنحطاط , لحظات البهجة و الإحباط , لحظة كوميدية عابرة و هو (مايسون)
يُلاطف شقيقته المُشاكسة و أخرى مؤلمة يتوقف عندها الزمن , كمشهد الأم و هي تلتمس
(بين دمعتين) من الغد تأجيلاً آخر ! ، موسيقى البوب , على الكفة الأخرى , كانت
بُغية مُخرجها في التعبير عن مكنون بطله و هو يقلب صفحة ليبتدئ بأخرى و ينزع جلداً
ليرتدي آخر .
أيضاً , ما يزيد من سحر حكاية الصبا هذه و يُرسخ قيمتها كسينما لمفهوم
المُخرج المؤلف , و إن كان هذا العمل أصعب تعريفاً ببساطة أهدافها و أسلوب التعريف
بها , هو أن لنكلايتر يبدو و كأنه يمد يد العون لصبي الخامسة حتى يغدو
يافعاً في الثامنة عشر من عمره , يحمله معه الى مستوى الموقف و يُهيئه لإتخاذ
القرار ؛ ما يصلنا من هذا السلوك القائم على التعاطف مُهم جداً في تعميق الروح
التي ألهمت العمل أدبياً و فنياً بل و جعلت منه استثنائياً بحق ، نحن أصبحنا نشعر
خلال الرحلة أن (مايسون جونيور) , شخصية المعني , جزء لا يتجزأ من إيلار كولترين
, مؤدي الشخصية ! ، نعيشها بدلاً من مُعايشتها , نراها ضحية للظروف التي مرت , ثم
مُنتصرة على حيل و مقالب الأيام , ثم مُستقلة لا تنتظر أحكام الظروف و الآخرين ؛
الأمر لا يستدعي التأويل الكثير أو مُخالفة واقع الصبي/المؤدي إذا ما شاهدناه
بعينيه ، و هذا يكفي كهدف نبيل لصناعة سينما!
ختاماً , هذا فلم مصنوع برقة تُلغي شعور المشاهد بثقل الزمن , و بكونه
يشاهد فلماً روائياً ذو تخطيط مُسبق و تنفيذ آني , بل يُخال له أن الواقع أضمر
كاميرا خفية لسبر أغوار أحد مُعاصريه و تكوين قدرة استثنائية على إفتان مُتتبعي
شريطه الزمني ؛ أحد أجمل و أنقى التجارب السينمائية على الأطلاق و أفضل مشاهداتي حتى منتصف
العام و لا أعتقد أن الأمر سيتغير كثيراً بعد انتهائه !
0 التعليقات :
إرسال تعليق