كتب : عماد العذري
التقييم : 4.5/5
بطولة : إيميلدا ستانتون , فيليب
ديفيز
إخراج : مايك لي (2004)
بين
أبناء جيله من المخرجين البريطانيين ، أمثال جيم شيريدان , و نيل جوردان , و
ستيفن فريرز , يبدو مايك لي الأكثر قدرة على صناعة الكلاسيكيات , ربما للطريقة التي
يحفر فيها في نفوس شخصياته على إختلاف تعقيداتها , و لإصراره الملحوظ على الإرتقاء
بأداءات ممثليه – مهما كانت طبيعة أدوارهم - إلى الذروة , و الأهم من ذلك إصراره في
جميع السيناريوهات التي يكتبها و يخرجها على تصوير ملامح الحياة اليومية لأبطاله بطريقةٍ
يتجاوز بها المدى الضيق للشخصية إلى ما هو أكثر عمومية و أزلية و يمنع نفسه من تأطيرها
عند حدود الحبكة التي تدور من خلالها أو الشخصية التي بُني على أساسها , فيلمه هذا
– الذي منحه أسد فينيسيا الذهبي عام 2004 – هو واحد من أفضل الأمثلة على ذلك
.
يحكي
الفيلم قصة فيرا دريك إمرأة خمسينية بسيطة في لندن 1951 عقب بضع سنوات على
إنتهاء الحرب العالمية الثانية , تعيش فيرا حياةً متواضعةً و بسيطةً للغاية مع زوجها الميكانيكي و إبنها
الخياط و إبنتها الخجولة التي تعمل في معمل لصناعة المصابيح , فيرا إنسانةٌ ودودة
مع جميع المحيطين بها , و حتى مع أولئك الأشخاص الذين لا تعرفهم , تهتم برعاية والدتها
المسنة و تأخذ بعين العطف و الإهتمام جارها المريض و تخدم في منازل عائلتين ثريتين
بكل إخلاصٍ و تفانٍ , و كل أسبوعين تؤدي فيرا عملية إجهاضٍ غير شرعي لنساءٍ أجبرتهن ظروفهن على الحمل ,
إما بدافع الخطأ أو بسبب الإغتصاب , فيرا تدير حياتها بتفانٍ شديد و بحيوية فتاةٍ في العشرين , و بجو
من المحبة و العطف و السعادة تنشره من حولها , لكن حياتها كلها تتغير عندما تشرف إحدى
النساء المجهضات على الموت بسببها .
بالنسبة
لأولئك الذين يتابعون أعمال مايك لي يبدو هذا العمل واحداً من أفضلها , و واحداً من أكثرها
كلاسيكية و نموذجية , المخرج الذي قدم للعالم روائع Secrets & Lies و Life is Sweet و Naked، يقدم هنا واحداً من أفضل أداءاته كمخرج , الرجل
لا يحتاج لأكثر من بضع دقائق ليسرد علينا بإنسيابية عالية ملامح حياة فيرا و عائلتها
, يرسمها بطريقةٍ قد تبدو لمن يتأملها بإمعان مغرقةً في التفاصيل التي لا تبدو واضحةً
بالنظرة العامة , الإخلاص الذي تحمله فيرا لتصرفاتها و لما تقوم به , هوسها تجاه إيجاد
عريسٍ مناسبٍ لإبنتها و النابع من معرفتها بخجلها , الحب الذي يحمله زوجها لها , و
حيوية الشباب التي تملأ إبنها سيد , علاقة فيرا واضحة الملامح منذ الدقائق الأولى بكل المحيطين بها , يبدو
مايك لي قادراً خلال هذه المدة القصيرة على دفع مشاهده لصنع مشاعر
و ردة فعل مكتملتين تجاه هذه المرأة مبكراً جداً , و الحق يقال هو ينجح في ذلك بوضوح
, و لن يمضي على المشاهد وقتٌ طويل حتى تأسره فيرا دريك و تستولي على
إهتمامه و إعجابه بسبب إخلاصها و تفانيها و حبها للمحيطين بها , بالطريقة ذاتها يدرك
مايك لي جيداً أن جزءاً مهماً من غنى شخصية فيرا دريك سينبع
في الواقع من غنى الشخصيات المحيطة بها , لذلك يهتم الرجل بشكلٍ ملحوظ بإغناء تلك الشخصيات
, ربما من خلال إصراره على خلق شخصيات حقيقية نهتم لأمرها و نتفاعل معها و نتواصل مع
ما تفعله , و أتحدث هنا عن الشخصيات بمجملها , و الخصوصية التي تتمتع بها كل شخصيةٍ
منها تجعلها تبدو كعالمٍ خاص يمد عبر أحد خطوطه شخصية فيرا دريك المحورية و يغذيها
, جزئية نتأملها في العلاقة المتشكلة بين فرانك (شقيق زوجها) و زوجته جويس , و العلاقة المتشكلة
بين إبنتها إيثل و خطيبها ريغ , و علاقة الحب الصامدة منذ ثلاثين عاماً بين فيرا و زوجها
, كل هذه العلاقات تمد بشكل أو بآخر الشخصية الرئيسية للفيلم بنوعٍ من التنوع و تغنيها
في سبيل رسم الصورة الختامية للعائلة و لأهمية العائلة و ما تمثله في حياة فيرا خصوصاً عندما
تصل إلى منعطف الفيلم الرئيسي .
ما أن
ينتهي مايك لي مباشرةً من تقديم شخصياته حتى يقلب الخط الذي يسير عليه
بعنف , عندما نشاهد فيرا تجري عملية إجهاض لمساعدة إحدى النساء , تحول دراماتيكي مثير
يأتي عرضاً و دون أي تمهيد مسبق , جعلني أصرخ برافو مايك لي , مايك لي – على
ذات النهج الذي ينهجه في سائر أفلامه – يقدم أحداث فيلمه المفصلية بطريقة لا تجعلها
تبدو مفصلية , هو يصر دائماً على إقحام تحولات دراماتيكية صعبةٍ للغاية ضمن نسقٍ مختلف
عما يسبقه , و ما يثيرني دائماً مع هذا الرجل بأنه ينجح في ذلك , ينجح حيث يفشل الكثيرون
, مايك لي و كأنما يخبر مشاهديه و معجبيه دوماً : أنا لا أمهد للتحول
لأنه لا يتم التمهيد له عادةً في الحياة اليومية , أنا أصنع التحول , فجأةً و دون أن
يجعل الرجل من المشهد مشهداً محورياً يقدم لك فيرا دريك المرأة التي
تقوم بعمليات الإجهاض غير الشرعي للنساء اللواتي لم يجدن من يساعدهن على ذلك , مايك لي يقدم لك
الحقيقة كما هي دون أي تحول من أي نمط كان في سيكولوجية الشخصية الرئيسية , فيرا دريك حتى
في عملها هذا متفانية و مخلصة و تحب مساعدة الآخرين , و هي حتى في نهاية ما تقوم به
لا تعتبر بأنها تقوم بأي شيء خارق , هي تقوم بالأمور التي يدفعها ولاءها و إلتزامها
الأخلاقي لفعلها لأي شخصٍ كان : تقديم المساعدة لمن يحتاج للمساعدة , مايك لي الذي
عادةً ما يلامس بحذر الفوارق الطبقية في أعماله السابقة يقدم عمل فيرا دريك الخفي
و كأنما هو ينبع من عمق التباين الطبقي الذي تعيشه , حيث الأغنياء الذين يواجهون المشكلة
ذاتها يتدبرون أنفسهم مقابل 100 جنيه , بينما لا يجد الفقراء من يساعدهم في مصيبتهم
, و هو من خلال إكتمال هذه الصورة لدى المشاهد عن حياة فيرا دريك يبدو و كأنما
يظهر له مدى روتينية حياتها و نمطيتها , و يظهر له بالمقابل كم هي راضيةٌ بها و كم
هي مقتنعةٌ بكل شيء تفعله , ليس بدافعٍ من ولاءها تجاه مباديء قد تبدو فائضةً بشكلٍ
ساذج على شخصيةٍ كهذه , بل بدافعٍ من بساطتها و بساطة أفكارها و حياتها و روتينها
, شخصية فيرا تبدو أبسط من أن يكون لها معتقدات أو قناعات مرسخة , هي تقوم
بعملٍ خطير دون أن تدرك تماماً مقدار خطورته , و بساطتها لا تبدو مناسبة (وهو أمرٌ
يتعمده مايك لي) للتعامل مع النتائج الوخيمة لأعمالها التي تملأها النوايا
الطيبة , شخصية حقيقية جداً يوازيها في ذلك شخصية زميلتها ليلي التي تجلب
لها الزبائن و تستأثر بجنيهين كاملين من العملية دون أن تعلم فيرا , هذه الشخصية
هي الأخرى تقوم بما تقوم به دون قناعات أو معتقدات , يبدو العقاب هنا – فيما لو حدث
– أكبر بكثير من أن تغامر بإرتكاب الجريمة فتقاد إليه , شخصيات من الحياة اليومية التي
نشاهدها كل يوم , شخصيات تبحث عن السعادة (كلٌ بأسلوبه) دون أن تفكر بمخلفات هذه السعادة
و نتائجها , ليس بسبب سلبيتها , و إنما بسبب بساطتها , نص مايك لي من خلال
كل هذا لا يجعلك تنتظر أي شيء , أنت تجلس لمراقبة و متابعة ما يحدث دون أي توقعات أو
تصورات , و هي نقطةٌ تحسب له من واقع كونه ينجح مرةً أخرى في فرض أسلوبه , و بما أنه
لم يمهد لهذا التحول – رغم أنه يبدو عنيفاً ضمن سياق الأحداث – فلن يبدو هذا الحدث
أصلاً كنوعٍ من التحول .
يمكننا
أن نقسم هذا الفيلم زمنياً إلى نصفين يستمر كل منهما لمدة ساعةٍ واحدة على الشاشة
, نصف لتأسيس و تقديم هذه العائلة و نصف للكارثة التي تصيب هذه العائلة , الكارثة التي
تحدث عندما تُستدعى الشرطة للتحقيق في عملية إجهاض كادت تقود صاحبتها إلى الهلاك ,
ضمن التحقيق يذكر إسم فيرا دريك , و تأتي الشرطة إلى منزل فيرا في حفل خطوبة إبنتها
للتحقيق معها , و ربما هي حالات قليلة صادفتني في مشاهداتي السينمائية تبدو فيها اللقطة
وحدها كفيلة بتلخيص كل شيء , الـ Close-up على وجه فيرا و هي تجلس على مائدة
الطعام و تسمع لأول مرة إستدعائها للتحقيق في جريمةٍ غير معلنة هو أفضل Close-up شاهدته خلال الألفية كلها , صورة بسيطة و عميقة
جداً في آن للحلم المنهار , و للفضيحة , و للذنب , و للخوف من المجهول يرسمه مايك لي ببراعة تستحق
التقدير على وجه بطلته إيميلدا ستاونتون وهي ترى الشرطة في منزلها و تنزلق – بإنسيابية
خارقة – من فرحتها بخطوبة إبنتها إلى غياهب المجهول , المجهول الآتي من الجريمة و من
العقاب , من الماضي و من المستقبل , تبدو فيرا (بفعل أداء إستثنائي من ممثلة الصف الثاني إيميلدا ستاونتون)
و كأنما سقطت فجأة في جحر آليس , الذي ستبدو عاجزةً فيه عن إستيعاب إلى أين سيوصلها , مايك لي الذي أشتهر
بإصراره على الوصول دائماً بأداءات ممثليه إلى الذروة من خلال تدريبهم على المشهد الواحد
أحياناً لأسابيع , يبدو و كأنما يصل بستاونتون في هذه اللقطة إلى الذروة الأدائية في مسيرتها , و ستاونتون بالمقابل
(وهي هنا تنال جائزة أفضل ممثلة في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي و ترشيحاً لأوسكار أفضل ممثلة)
تتفهم تماماً أهمية مشهدٍ كهذا , هي تدرك بأن هذا المشهد لن ينفصل عن نسق التأسيس الذي
قدمت فيه شخصية فيرا , و كم البساطة و اللطف و التعاطف الذي غمرتنا به طوال الساعة
الماضية , تدرك ذلك جيداً و تقدم هذا الإنزلاق بذات الكيفية , فترسم في فيرا في هذا المشهد
ضياعاً واضحاً و رهبةً مدمرةً و خوفاً حقيقياً مما سيحدث , فيرا تواجه فجأةً
و في واحدةٍ من أكثر لحظات حياتها إنتظاراً (خطوبة إبنتها الوحيدة و الخجولة) أعنف
تجربةٍ في حياتها , يبدو المشهد أبعد بكثير من مجرد إنهيار نفسي أو صدمة عنيفة , فيرا لا تمتلك
في المشهد الفرصة حتى للمحاكمة العقلية الذاتية لفهم ما يحدث أو سيحدث , فتساق مع الشرطة
و منها إلى مكتب التحقيق بطريقة متفهمة و مدروسة بعناية من ستاونتون تتناسب
بشكل صادق و حقيقي مع بساطة فيرا و ضياعها هنا
.
بالتوازي
مع هذه الثقة التي يقدمها مايك لي لبطلته للتكفل بهذا المحور من الفيلم , يكثف مايك لي في هذه
المرحلة جهوده في نصه ليرسم مقدار ما يمكن أن تحدثه مصيبةٌ كهذه على عائلةٍ بسيطة
, الحب و الشك , الثقة و فقدان الثقة , المساندة و الشماتة , ردود فعل متباينة تجاه
ما فعلته فيرا , يُتوِّجها مايك لي بمشهد مواجهة العائلة لبعضهم البعض في مشهد مؤثر و صادق
لكيف يبدو الرابط العائلي أعمق و أمتن من أي شيء آخر يستجد على حياتنا , و كيف أن بعض
العلاقات التي ولدت معنا و ترسخت و ضربت في الصميم تبدو أكبر و أقوى من أن تزحزحها
الإثباتات و الأدلة .
و رغم
أن ستاونتون بذلت مجهوداً حقيقياً في التأسيس لفيرا دريك طوال
الساعة الماضية إلا أن ما يثبت بوضوح قوة أداءها و عظمته يتجلى في النصف الثاني , خصوصاً
في بعض المشاهد المؤثرة التي نقلتها ستاونتون للمشاهد بصدق حقيقي , كمشهد التحقيق معها و الذي يبدو
مشهداً للذكرى , أو مشهد إخبارها لزوجها بالحقيقة , مايك لي يسرد في هذه المرحلة
مبررات فيرا لما فعلته , كيف عاشت بدون أب لأن أمها لم تخبرها من هو أبوها
و كيف بدأت تفعل ذلك منذ أكثر من 20 عاماً كرد فعلٍ لما حدث لها في شبابها , و رغم
أن هذا التبرير يبدو منطقياً إلا أن تقديمه يصنع ثغرة تفقد الفيلم بعضاً من بريقه
, فالفيلم لا يحاول ملء الفراغ الذي يحدث في القضية منذ لحظة إعتراف فيرا بجريمتها
عن طريق تقديم محاكمات أخلاقية لما فعلته , هو يكتفي فقط بمراقبة ما يحدث , الأمر الذي
يولد نوعاً من الفراغ في أحداث الثلث ساعة الأخيرة من الفيلم , خصوصاً في تجنبه تقديم
ما حدث لفيرا أو لأمها في الماضي و كأنما يترك ذلك لخيال المشاهد و تصوره
و الذي لا يكفي لوحده هنا .
في Vera Drake يقدم مايك لي واحداً من أفضل
أفلامه على الصعيد البنائي و الدرامي , و من أكثرها قدرة على التشبث بتلافيف الذاكرة
و عدم مغادرتها , و من أكثرها كلاسيكيةً أيضاً , تدعمه أداءات متمكنة من طاقمه ككل
, و خصوصاً من إيدي مارسان و سالي هوكينز , تساند الأداء الإستثنائي العظيم من نجمة العمل إيميلدا ستاونتون التي
تخسر هنا جائزة أوسكار في سنةٍ عدها البعض أقوى سنوات الأداء النسائي خلال العقد كله .
0 التعليقات :
إرسال تعليق