كتبت
: فاطمة توفيق
التقييم : 4.5/5
بطولة : مايكل إلفيك ، إزموند نايت
إخراج : لارس فون ترير (1984)
عندما يقدم لارس
فون تريير فيلماً عن جريمة قتل ، يكون الأمر مختلفاً عن كل ما تتوقعه وعن كل ما شاهدته من قبل .
تحدث الجريمة في أوروبا ، بعدما تشوهت وسادت فيها الفوضى ، ويتم استدعاء الضابط المجتهد فيشر من القاهرة ليحقق فيها ، نحن نعرف كل ذلك من خلال جلسة تنويم معناطيسي يحكي فيها فيشر ما حدث لمعالجه النفسي في القاهرة ، نعرف منه أن المسؤول عنه في هذه الوظيفة هو كريمر زميل دراسته الفوضوي المزعج ، والذي كان قد عرض الوظيفة من قبل على أوزبورن ، أستاذ علم الجريمة العظيم ، الذي ألف الكتب والنظريات والتي اتخذها فيشر منهجاً ليس فقط في التحقيق والبحث كضابط شرطة وإنما منهجاً لتفكيره وحياته ، ولكن عندما يعود فيشر إلى أوروبا يجد أن الأمر اختلف كثيراً ، أوزبورن قد شاخ كثيراً ، حرق كل مؤلفاته ونظرياته واتخذ من بيته سكناً لا يخرج منه ، بينما ملأت الجريمة والفوضى أوروبا وعاث فيها الفساد .
تكاد وأنت تشاهد الفيلم أن تشم الرائحة الكريهة والرطوبة التي تملأ أجوائه ، مع
ذلك الجو المقبض الكابوسي واختفاء الأبعاد والاتجاهات المنطقية للأماكن ، تشعر
وكأن الأماكن هي فقط دهاليز في عقل منهك ونفسية مشوهة ، مع احساس دائم بالغرق من
مياه الأمطار ، البرك ، الأنهار ، هناك دائماً مياه وبشر متكدسين وأوساخ والكثير
من العرق ، وكل ذلك مع سيناريو قاتم ذاتي وشعري في آن واحد كان خير مادة يقدم من
خلالها لارس فون تريير وجهة نظره في الانسان وفي الحياة الحديثة وما تفعله بالعالم ، فلا
سيطرة للجمال أو العلم أو القوانين ، كل ذلك قد تم التخلص منه أو حرقه كما حدث مع أوزبورن مثلا حينما طُرد ،
وحينما حرق كتبه وأبحاثه ، والسيطرة هنا فقط للفوضى ، والوحشية والقبح الذي صنعه
الانسان ، فهو يقتل ، يمارس الدعارة ، ويجمع التذكارات من مواقع الجريمة كنوع من
الترفيه والسياحة ، وإن خلق شعائر يلتزم بها - كالغطس في الفيلم - كانت بشعة كباقي
هذا العالم ، بينما كل ما هو جميل منتمِ للفطرة فهو إما مقتول أو مهدد أو مشوه ،
كالفتيات الصغيرات والحيوانات المقيدة أو التي نشاهد جثثها كثيراً أو الحمار الذي
يبدأ به الفيلم الذي يجاهد ليقف ويبقى حياً (وفي ذلك إشارة سريعة من تريير للفيلم
الذي يحبه كثيراً ، Andrei
Rublev لتاركوفسكي) .
بينما على النقيض جعل تريير من القاهرة ملاذاً آمناً ، بمآذنها وحيواناتها وأغانيها وابتعادها عن تلك الحياة الحديثة كما يرى هو ، وكما يقول على لسان المعالج النفسي لفيشر بأن القاهرة هي الحب الطاهر ، والنيل الخالد والأساطير القديمة التي هي أكبر من أن يستوعبها الأوروبيون ، وحينما قرر فيشر أن يترك أوروبا لأنه لم يعد يتحملها أجمَل ذلك في قوله بأن معطفه الذي أتى به من القاهرة كان أخف كثيراً من أن يحميه من مناخ أوروبا ، وأنت تشعر بأنه لا يتحدث فقط عن معطفه الذي يلفه حول جسده وإنما أيضاً معطفه القاهري الذي يغلف به روحه ليحميها من عفن وفساد أوروبا وحضارتها الحديثة وما آلت إليه .
بالتوازي مع نظرته هذه للحياة الحديثة وبشكل مضفر فيها يقدم تريير الكثير من الأسئلة عن النفس البشرية وعن مدى قدرتها على التشوه واستيعابها للقبح ، فهل إذا وفرت البيئة المناسبة لخلق مجرم سيتحول الشخص العادي بل الشخص المحارب للجريمة إلى مجرم يفعل تحديداً ما يحاربه ؟ ، هل الانسان قادر على محاربة ومناقضة نفسه بهذا الشكل ؟ ، وهل على الرغم من هذا التحول سيبقى جزء من الفطرة البشرية في النفس يجاهد ليبقى أو ليتم انقاذه أو معاقبته تكفيراً عن كل هذا التحول ؟ ، وإلا فلماذا استدعى أوزبورن فيشر تحديداً ليحل القضية ؟ ، هل كان يعرف أن فيشر سيحلها فيكفّر أوزبورن عما آلت إليه الأمور ؟ ، أم أن أوزبورن أراد أن يثبت لفيشر وهو أفضل طلابه بأن الانسان مهما وصل إلى الفضيلة وحارب بها الشر قادر على أن يتحول إذا سمحت له الظروف ليكون هو بنفسه ذلك الشر ؟.
تقول كيم - وهي الشخصية النسائية التي تقف في المنتصف بين كل الأسئلة وكل الشخصيات - "هل أنت مؤمن بالخير والشر ؟ ، هل أنت مؤمن بأنه من الممكن إعادة إصلاح الشر ليكون خيراً مرة أخرى؟" ، وكأن كيم تسألك أنت شخصياً وليس فيشر ، وكأن تريير يفترض على الرغم من كل القبح بأن أصل الأمور هو الخير ،
كما اختزلت كيم وجود الرب في السائل الذي يقذفه الرجل بداخلها ، فهو المتحكم في الأمور ، هو الذي يصنع هذا العالم ، عالم ربه انسان مشوه وقبيح ، وكيم المرأة مصدر الخصوبة فيه حينما أنجبت في هذا العالم أنجبت انساناً معاق غير معافى .
وفي النهاية يطرح تريير سؤاله الأخير ، هل النفس التي أصابها كل هذا التشوه بإمكانها أن تتعافى ، أن تتغير ؟ ، هل من حقها ذلك ؟ ، هل سيستيقظ فيشر ؟.
الفيلم هو الأول من ثلاثية أوروبا التي قدمها تريير وتحدث من خلالها عما يراه من مستقبل أوروبا بعدما تعيشه الآن من حياة حديثة .
0 التعليقات :
إرسال تعليق