كتب
: فراس محمد
التقييم :
5/5
بطولة :
ريتشارد بيرتن ، بيتر أوتول
إخراج : بيتر
غلينفيل (1964)
بهذه الطريقة تخترق
السينما كل الحواجز , حاجز التاريخ وحاجز السياسة وحاجز قدسية مؤسسة الدين وحاجز
المسرح دفعة واحدة ، بيكيت شخصية تظهر في كل المنعطفات التاريخية , في فترات السلام القلق , بيكيت هو ميفيستو المخرج
الهنغاري استيبان زابو , ولكن ليس كل ميفيستو بيكيت , بيكيت شخصية أكثر نبلاً ,
يبحث عن هدف اسمى من مصلحته الشخصية , هو يمثل فئة مهمشة من الناس ، يمثل البحث عن
الشرف المسلوب منهم ، هو شخصية تعلمت الاذعان ونكران الذات والسباحة عكس كل جذورها
كي تصل لليوم الذي يستعيد فيها شرفها ، رغم القواسم المشتركة الكثيرة بين شخصيتي ميفيستو و بيكيت , إلا ان التاريخ لا
يعيد نفسه مرتين , بيكيت شخصية تاريخية تستعيد شرفها بعد ان سلب منها , ميفيستو لا ترغب سوى
بالمحافظة على مصالحها , بيكيت كان يبحث عن الولاء الذي يدافع من خلاله عن شرفه بعد ان حصل عليه , ميفيستو كان يبحث عن اي ولاء
ليحافظ من خلاله على مصالحه , الزمن وتغيير المفاهيم , كانت كفيلة بين عصرين بأن
تحول الشرف لمصلحة شخصية , وتحويل الولاء لوسيلة لذلك ، تحول بيكيت لميفيستو .
الساكسونيين في عهد ويليام
الفاتح تعرضوا للتهميش فأصبحوا انكليز فئة ثانية واستمر الحال على ما
هو في عهد الملك هنري الثاني , ولكن صداقته ببيكيت الساكسوني وثقته به كان العامل
الذي غير موازين القوى بالنسبة للساكسون ، من اعتبارهم صفر
على الشمال ، لكي يكونوا رقم في المعادلة الشعبية لملك انكلترا في صراعه على
التفرد في السلطة مع الكنيسة ، الفلم قدم نوعية العلاقات التي تحتاج للكثير من
التمهيد والتأسيس لأنها ستتحكم بكل مفصل من مفاصل الفلم المحكم الحبكة , علاقة
الملك هنري ببيكيت لم تكن مجرد علاقة بين ملك
نورماندي ومستشار ساكسوني , كانت علاقة صداقة من نوعية خاصة , علاقة اليد
بالكف , علاقة العقل بالعضلات , وفي الوقت الذي كان يبحث فيه بيكيت عن شرف مفقود
من خلال ولاءه للملك ، كان الملك قد اشعل النار بينه وبين الرجل الجريح , فمنحه
امتيازا غيّر بموجبه ولاءه , من ولاءه للملك لولاءه للكنيسة وللرب , وهذا التصرف
الناتج عن عدم قدرة الملك على استيعاب ما الذي من الممكن للساكسوني ان يفعله
ليستعيد شرفه , وناتج ايضاً عن رعونته وطيشه الذي لم يبخل الفلم في ابرازه ، تصرف معه كخادم بينما هو كان يبحث عن شيء أكثر
خطورة من خدمه الملك بالنسبة لرجل ساكسوني ، وتحولت حينها العلاقة لحرب بين ولائين
, ولاء بيكيت للملك , وولاءه للرب , العلاقة التي اخذت شكل الحرب لم تنفي عنها صفة
الصداقة التي اخذت بعداً أكبر وأكثر تعقيداً , الانتقام بدا وكأنه رغبة في استعادة
الصداقة , والموت بدا كأنه رغبة في استعادة الملك لولاء بيكيت , كلما تقدم بيكيت خطوة لتحقيق طموحه ,
ازداد تعلق هنري به ورغبة في ابعاده كحجر عثرة , واستعادته تحت جناحه ، استعادة ولاءه
وصداقته .
الطموح وسلب الارادة
بالنسبة لرجل كبيكيت اشبه بوضع النار والزيت أمام بعضهما , الملك هنري عجز عن فهم هذه
المعادلة , التي لم تكن حتى بالنسبة لبيكيت واردة لولا خطأ هنري الكارثي بتغيير
ولاءه تحت حجة السيطرة على الكنيسة التي لطالما عارضته سياسياً , الفلم يقدم المدى
الذي من الممكن أن يتورط فيه الدين بالسياسة , إلى أي مدى يصبح رجل الدين رجل
سياسة , ومتى تتنافر الاخلاق مع الدين و تجتمع مع السياسة والسلطة , كل هذه
المعادلات المعقدة كادت ان تجعل من هنري رجلاً عاجزاً معرضاً
للوقوع بالأخطاء تحت رغبته في الانتقام من بيكيت , وكادت أن تجعل بيكيت خائناً لأنكلترا
وللرب , ولكن السياسة قادرة وبنفس موازين القوى ان تجعل بيكيت شهيدا ومن هنري المستفيد الاول من
تحويل اسمه لقديس ديني .
بيكيت يبدو انه شعلة النور
الوحيدة ضمن هذه الظلمة , فوجوده وراء غطاء الدين منعه من التخلي عن ولاءه للرب ،
مهما كانت المصلحة السياسية , الدين بالنسبة لبيكيت لا يجب ان يدخل
متاهات السياسة حتى ولو كانت كذلك على اعلى المستويات ، طموح بيكيت لم يتخطى رغباته في
التحرر من ارث الماضي الثقيل , ولو تم ذلك دون التعرض بالأذى او الخيانة لصديقه الملك
هنري لربما كان ذلك افضل ما يمكن ان يطلبه ، ولكن سذاجة الملك هنري وضعت بيكيت ضمن خيارين ، الملك
, أم الله .
بيتر
اوتول وريتشارد بورتون كانا يلعبان في ملعبهما , تستطيع ان تشعر أنهما خلقا ليقدما هذه
النوعية من الافلام السينمائية المقتبسة بالأصل من المسرح , هنا تظهر البطانة
الانكليزية للسينما والمسرح , الفخامة والطبيعة التاريخية للأنكليز , مدى التعقيد
الذي تتحلى به شخصيات كهنري وكبيكيت باعتبارهما جزء من تاريخ مليء بالتناقض والغزوات والصراع الديني
السياسي الداخلي ، شخصيات لا تسعى لأن تكون بيادق على لوح الشطرنج بقدر رغبتها بان
تكون اليد المحركة لمسرح العرائس الدموي هذا .
0 التعليقات :
إرسال تعليق