كتب : عماد العذري
التقييم : 4.5/5
بطولة : لون تشيني ، جوان كراوفورد ، نورمان كيري
إخراج : تود براونينغ (1927)
قضى تود براونينغ
جزءاً من مرحلة مراهقته في سيركٍ جوال شاهد فيه العجائب قبل أن يقدّم للعالم عدداً
من الأعمال السينمائية المهمة التي تأثرت كثيراً بتلك المرحلة من حياته ، من تلك
الأعمال فيلمه الأشهر و الأكثر إثارةً للجدل Freaks
، و من تلك الأعمال رائعته السينمائية هذه التي بقيت دائماً في خلفية الصورة التي
صنعها براونينغ بالرغم من أنها واحدةٌ من الأفضل ، و ربما الأفضل .
في هذا الفيلم يحكي براونينغ حكايةً عن سيركٍ جوالٍ يديره مجموعةٌ من الغجر في مدريد ، لورينزو أعجوبة السيرك ، رامي السكاكين الذي ينفذ هذه المهمة الخطرة يومياً
بإستخدام قدميه لأنه بلا يدين ، ضحيته اليومية هي نانون الفتاة الحسناء و إبنة مدير السيرك التي تعاني رهاباً خاصاً من أي ذراع
رجلٍ تمتد إليها و هي الجزئية التي يحاول لورينزو استغلالها ليبدو أكثر جاذبيةً في نظرها .
لورينزو في الواقع ليس كذلك ، سرعان ما نكتشف أن لديه ذراعين و أنه تماهى كثيراً
في لعب هذا الدور لدرجة أنه بات يدخن السيجارة بإستخدام قدميه حتى و ذراعاه
مكشوفتان ، و أنه يمارس هذا الدور ليخفي أعمال السرقة التي يقوم بها ليلاً في كل
منطقةٍ حط بها السيرك الجوال ، لورينزو في الوقت ذاته يموت ولهاً بنانون ، و نانون لديها ماضٍ يعود إلى مرحلةٍ مبكرةٍ من حياتها ولّد لديها رهاباً تجاه
اللحظة التي تمتد فيها يدُ رجلٍ إليها ، لورينزو سعيدٌ بهذا التفصيل الذي يجعله مختلفاً بنظرها ، المشكلة أن للفتاة عاشقاً
آخراً يفاخر جداً بذراعيه ، مالابار ، لاعب عروض القوة في السيرك و الذي سيدفع
وجوده القوي في حياة نانون بالحكاية إلى منعطفٍ مختلفٍ و شديد الحدية .
هذا الفيلم مثيرٌ للإنتباه ، و مميز ، و غريب ، و مختلفٌ ربما عن أي شيءٍ
جاءنا من تلك الحقبة ، و بالرغم من أنه يحقق ذلك فقط لأنه فيلمٌ (صامت) ، و بالرغم من أن السينما الصامتة هي وحدها القادرة على جعل حكايةٍ
غريبةٍ كهذه مؤثرةً و عظيمةً إلى هذا الحد ، إلا أن هذا الفيلم ليس أسير حقبته
الصامتة أبداً ، هو عظيم و غريب و مثير للقلق حتى بعد قرابة تسعين عاماً على
اطلاقه .
الجميل في المسألة أن الحدث الذي يقدمه هذا النص رغم غرابته - و هو الذي
تستند عليه في الأساس قوة العمل ككل – إلا أنه يقدم لنا بأقل مقدارٍ ممكنٍ من الغرابة
، براونينغ في هذا الفيلم يمسك بمبررات الحدث و يجعلها بقوة في مقدمة كل شيءٍ حتى و
إن بدت نظرياً بعيدةً عن العواقب التي ستقودنا إليها ، تشعر بنفسية لورينزو و حقده ، و في الوقت ذاته تشعر بمقدار المه عندما يكتشف حب نانون لمالابار ، تجد أمامك شخصيةً سلبيةً بكل ما قدمه لنا الحدث فيها ، لكنك مع ذلك
تتفهمها و تتعاطف معها بقوة ، براونينغ عظيمٌ جداً في صنع طرفين متكافئين لمعادلةٍ
هلاميةٍ من (الخير) و (الشر) لدى لورينزو يتوازنان عند لحظة الإكتشاف العظيمة التي تعلن فيها نانون للورينزو عن نيتها الزواج من مالابار في واحدٍ من أعظم المشاهد في مسيرة السينما
غير الناطقة ، قبل أن يقلب تلك المعادلة ليحوّل لورينزو في ذروة الفيلم إلى شيطانٍ حقيقيٍ مجنون و كتلةٍ من الشر المحض تريد
القضاء على تلك العلاقة العاطفية بأقسى طريقةٍ ممكنة .
تود براونينغ يقدم عملاً إخراجياً عظيماً دون شك ، كل لقطة في الفيلم لوحةٌ قائمةٌ
بذاتها ، خصوصاً في استخدامه المدروس للقطات القريبة و توظيفه المثالي للإضاءة و
الفلاتر لجعل الصورة أكثر نعومة خصوصاً في المشاهد الرومانسية و تحديداً عندما
يلتقط وجه جوان كراوفورد ، و في الوقت ذاته الإيقاع الصعب جداً للحكاية الغريبة الذي يكون بحاجةٍ
لإهتزازٍ بسيط لينهار فيه كل شيء ، و بالتأكيد الأداء العظيم الذي يقدمه لون تشيني تحت إدارته في واحدٍ من أهم منجزات الشراكة طويلة الأمد التي جمعتهما منذ
فيلم تود براونينغ الأول ، يقول الأسطوري بيرت لانكستر أن أداء لون تشيني في هذا الفيلم هو (الأداء الأكثر إثارةً
للعواطف شاهده في حياته) ، لون تشيني كان في ذلك الوقت واحداً من نجوم الحقبة الكبار بالرغم من أن فقدان جزءٍ
كبير من أفلامه – و ربما هو أكثر نجمٍ في تاريخ هوليوود تعرضت أفلامه للفقدان – جعلته
يبدو أقل أهمية لجمهور اليوم من نجوم الحقبة الآخرين ، الرجل يقدم هنا واحداً من
افضل الإنجازات الأدائية التي جاءتنا من تلك الفترة ، الكيفية التي يجعل فيها لورينزو يحصل على كل هذا الكم من تعاطفنا بالرغم من كل هذا الكم من السلبية التي
يحملها هي شيءٌ لا يمكن التعبير عنه بسهولة ، و لا ينجزه سوى ممثل مختلف .
ربما أعيب على هذا الفيلم المنحى الذي تأخذه نهايته – لأفكارٍ ساديةٍ في
رأسي – و ربما كنت أفضل لو أن تلك النبرة الميثولوجية استمرت لتصنع نهايةً حزينةً
جداً للحكاية ، و يقال أن براونينغ تجنبها متعمداً بما في ذلك تجنبه فكرة قتل لورينزو لكوجو و الطبيب بعد اجراء العملية و الذي كان مكتوباً في السيناريو الأصلي ، علاوةً على
أن المشاهد قد لا يستسيغ تماماً موسيقى الفيلم في نسخة الديفيدي و التي وضعتها أوركسترا آلوي كعادتها مع عددٍ كبير من اصدارات الأفلام غير الناطقة ، هي هنا تضعف في
مواضع و تكون عبقريةً في مواضع أخرى لتتناسب مع غرائبية الفيلم ، و هي تذكرني
بأعمال ترينت آزنور و آتيكس روس اليوم لكن بتوظيفٍ اقل مستوى .
جوان كراوفورد اعتبرت هذا الفيلم الأكثر أثراً في مسيرتها و يمكن تفهم الأثر الذي يحدثه
العمل في فيلمٍ كهذا في حقبةٍ كتلك لم تعتد تقديم حكاياتٍ معقدةٍ كهذه ، تود براونينغ كان سيداً لتلك الغرائبية ، بعد ذلك بخمسة أعوام قضى Freaks
تقريباً على مسيرته لكنه خلد إسمه للأبد ، أستطيع أن أتخيل بوجود هذا الفيلم و Freaks
حجم الإنتقادات التي كان يتعرض لها براونينغ في عصره ، طبيعة الأفلام التي يقدمها و نوعية التوتر و القلق الذي يزرعه
في مشاهده مستغلاً التشوهات الخلقية و التغيرات الجسدية لدى أبطاله ، شيءٌ فريدٌ
جداً من نوعه ، و يبلغ في The Unknown برأيي ذروة أثره و قيمته ، يحقق نبرةً شبه
ميثولوجيةٍ للحكاية تجعلها أشبه بسرد أسطورةٍ إغريقيةٍ عن رجل فقد كل شيء من أجل
لا شيء ، السينما الصامتة هي من جعلت تلك النبرة متاحةً و مقبولة ، و تود براونينغ هو من جعل هذا الفيلم الصامت خالداً و صالحاً لكل الأزمنة .
0 التعليقات :
إرسال تعليق